دائمًا توجد حالة بناء وحالة هدم…
قوم يأتون وقوم يغادرون… نمو ومحق،
وهذا ما وقر في قلب خالد بن الوليد، رضي الله عنه، بعد كل مواجهة مع رسول الله ﷺ وأصحابه رضوان الله عليهم، يقول: (فليس في موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضوع في غير شيء، وأن محمدًا ﷺ سيظهر)
وفي المشهد المعاصر:
اليهود في فلسطين في حالة هدم فقد فشلت الحالة اليهودية في بيت المقدس وأجوار بيت المقدس في إنشاء كيان متجانس في مساحة جغرافية مناسبة تضمن له الاستقرار (مهم الاتساع الجغرافي من أجل الاستقرار)، وفشلت في الاندماج مع المحيط البشري المتاخم لها كما كانوا في المدينة المنورة قبل الإسلام، ولم يعد الغرب في حاجة للكيان الصهيوني كما قد كان، وذلك بعد أن اجتاح العالم الإسلامي عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، وثقافيًا فاستقر بجنوده وشركاته ونخبته بينهم فبدّل دينهم (عاداتهم وتقاليدهم) وتبعوه.
وفي المقابل: المقاومة في حالة بناء مستمر. وإن كل صعود إنما يكون في منحى متدرج لا خطًا عموديًا مستقيمًا. «إنَّما بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بكَ» [صحيح مسلم]، فمن أفراد قوميين تابعين للدول حديثة النشوء المنهزمة إلى مقاومة شعبية منظمة وقوية، ثم إلى صحوة جماهيرية في كل مكانٍ حتى تلك الأماكن التي يسيطر عليها يهود (الداخل الفلسطيني). وإن أخشى ما أخشاه أن تتشيّع المقاومة، فكرًا ومشروعًا.. بمعنى تؤمن بما يؤمنون وتدخل فيما يفعلون.
والروافض في حالة بناء.. لديهم مشروع ودولة، وجغرافيا ممتدة (العراق واليمن وسوريا ولبنان)، وجماعات موالية وشبه موالية (الصوفية) في جميع الدول تقريبًا. وأهل السنة في حالة هدم يراد لهم الدخول في غيرهم (العلمانية).. بل يدفعون للدخول في العلمانية الغربية.
والدولة القومية في حالة بناء.. تجدد نفسها.. تتحول من الحدود الجغرافية إلى الحدود الافتراضية (النفوذ)، وتتمكن من سحق الهويات الدينية والإثنية التي سبقتها. وقد شرحت هذا وما قاربه من مفاهيم في محاضرة ومقال بعنوان “مقولات ابن خلدون ذات قدرات تفسيرية محدودة ومضللة”. والمعارضون لها (الحركات الإسلامية تحديدًا) في حالة هدم وتوظيف وعليهم أن يرحلوا.. عليهم أن يجددوا أنفسهم.. أن يفهموا أن مواجهة الدولة القومية من خارجها غير ممكن على الأقل حاليًا، وقد فشلت كل المحاولات، سواءً من «الجماعات المسلحة» أم «الدعوية» وحتى التي تسللت للحكم وسيطرت عليه، مثل: «سودان الترابي والبشير»، و«ماليزيا مهاتير»، و«طالبان أفغانستان»، و«داعش سوريا والعراق» و«أزواد الساحل والصحراء»، و«نهضة تونس» و«إخوان مصر»، فشلت أو أُفشلت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والعامل الرئيسي في فشل هذه النماذج هو قوة الدولة القومية، وقوتها من قوة المنظومة الغربية التي أنجبتها. ولن تضعف الدولة القومية في العالم الإسلامي قبل انهيار نموذجها في الغرب. وانهياره بسنن ربانية. والله أعلم. وهو الذي يدبر الأمر سبحانه وعز وجل {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد: الآية2).
والغرب في حالة بناء.. نموذج القوة المهيمنة الذي استقر عليه الغربيون بعد الحرب الثانية يتجذر يومًا بعد يوم. وقد نجحوا في تكوين قطبية أحادية متعددة، وهذا هو النظام العالمي الجديد بعد الحرب الباردة.. قطبية أحادية بقيادة الولايات المتحددة وشراكة الجميع في تراتبية هرمية وظيفية. وقد تمددوا بنموذجهم الليبرالي الرأسمالي شرقًا وأعادوا بناء المنظومة الاشتراكية لتكون رأسمالية ليبرالية كما هم أو يكاد.. وطؤوا الاشتراكية وأخرجوا منها شقيًا يسير على دربهم.. وإن ثار على «أبيه» فلن يغير مبادئه.. بمعنى أنه خلاف داخل المنظومة الرأسمالية الغربية في نسخة جديدة (بعد انتهاء الحرب الباردة).. أو منظومة جديدة.. لا هي رأسمالية ولا اشتراكية، “والموت بالزهر مثل الموت بالفحم”. إن العالم اليوم يتوحد على الليبرالية الرأسمالية الغربية وهذا ما يجب أن يزعجنا نحن المسلمين، وإن حدث تراجع فسيكون لدولة أو تحالف دول (وهذا بعيد في المستوى القريب) لا للمنظومة العقدية التي تدير المشهد (الرأسمالية الليبرالية).
ونموذج الأسرة يتراجع لصالح الفردانية. والصراع الآن بين ذكور وإناث لا بين نموذج الأسرة في الإسلام والفردانية الغربية التي تجعل الذكر كالأنثى.
وإن الصراع على خلفية ذكر وأنثى كله لصالح النموذج الغربي. الإسلام شيء آخر.. تعاون.. تجميع.. سكن.. أدوار تتناسب مع الإمكانات. {ولَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (النساء: من الآية 32).
ونموذج الدعاة الجدد، وكذلك الوعظ، في حالة بناء.. تطور كثيرًا فأصبح سلفيًا، ومتخصصًا، وله عمق معرفي.. يُعلِّم من خلال الدورات والبرامج، ويتحدث من المسجد ويلتزم بالسمت الظاهر، ويقوم به شخصيات ذات وعي. فأصبح الوعظ علميًا وسلفيًا وبَعُدَ كثيرًا عن القصص المكذوبة والأحاديث الموضوعة، وأقترب أكثر وأكثر من القرآن الكريم، واقترب من الوعي بالواقع المعاصر.
وكاد هذا الإصدار الجديد من «الدعاة الجدد»، والذي ظهر بقوة بعد يوليو 2013م، أن يُخفي نموذج الدعاة الجدد القديم الذي تدرج منحدرًا من الشيخ ياسين رشدي والشيخ الدكتور عمر عبد الكافي إلى معز مسعود مرورًا بعمرو خالد ومصطفى حسني. ولكن هذا البناء هَدْمٌ في الحقيقة!!
حين ترتفع قليلًا وتنظر للمشهد من أعلى فستجد بوضوح أن هذه الظاهرة وإن كانت قد طوّرت ظاهرة الدعاة الجدد وطوّرت الوعظ فإنها كادت أن تخفي ظاهرة التأصيل الشرعي للعلوم وفرض واقع جديد يتطابق مع واقع الصحابة والتابعين.. هذا الذي حاوله السلفيون من مساجدهم ونشاطهم الاجتماعي (الخدمي) والبحثي (محاولة إنشاء مراكز أبحاث). وهي بهذا المعنى هدم.. وخطوة في سياق منحدر لحضور النموذج الإسلامي الحقيقي.
ويتأكد هذا الفهم حين تنظر للمشهد الأكبر المتعلق بظاهرة التدين عمومًا، سنجد أن هؤلاء يُزاحَمون بأزهريين (التدين الرسمي) وصوفيين، وملاحدة.. نعم وملاحدة فالإلحاد المعاصر «مؤمن».. إبراهيمي.. يقدم تفسيرًا خاصًا للدين ولم يعد كما قد كان إلحادًا كليًا لا يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومن شعاراتهم «مؤمنون بلا حدود».
إن نقطة القوة عند الدعاة الجدد تكمن في البرامج العملية… فصلاح حال الناس بتدابير عملية والوعظ وحده لا يكفي. ونقطة الضعف في تقديم الدعاة أشخاصهم وما هم فيه من زينة الحياة الدنيا كنموذج لمن آمن بالله ودعا إليه. وإن الإسلام.. وإن الرسل.. وإن الكتب لتعريف الناس بربهم ليعبدوه.. يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: من الآية37)، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56).