د. محمود خليل يكتب: طه حسين.. في قاع المؤامرة

كانت امرأة بحجم المؤامرة.. وذكاء المؤامرة.. وحبكة المؤامرة.. ونعومة وقسوة المؤامرة.. في آن واحد.

تلك.. هي(سوزان برسو) (1895 – 1989) التي عرفت فيما بعد باسم (سوزان طه حسين) والتي تمت تغطية مؤامرتها الكبرى حتى بعد رحيلها، حين نشرت جريدة الأهرام القاهرية نبأ وفاتها يوم الخميس الموافق 27/7/1989 عن عمر يناهز الرابعة والتسعين، ونشرت الأهرام -كذبًا- أنها قد أعلنت إسلامها بعد زواجها من عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وتركت باريس لتعيش في القاهرة.

في حين يؤكد كل من عرف طه حسين، وعلى رأسهم سكرتيره الخاص الدكتور محمد الدسوقي أستاذ الشريعة الإسلامية، أن السيدة سوزان لم تعلن إسلامها بعد زواجها من العميد، ولا قبله ولا في حياته، ولا بعد مماته، بل ظلت على عقيدتها المسيحية إلى وفاتها، وكانت تذهب كل يوم أحد إلى الكنيسة، وما كانت تتخلف عن هذا إلا لضرورة قاهرة، كما كانت تستقبل كل أصدقائها من المصريين الذين يحافظون على زيارتها من المسيحيين، إضافة إلى بعض المسلمين الذين غلبت عليهم الثقافة الفرنسية.

وتؤكد اللوحات الزيتية التي كانت تزين جدران بيت طه حسين «رامتان» أنها ذات طابع فرنسي خالص في الفن، ولم يكن للطابع العربي أو الإسلامي أو حتى الفرعوني، أي وجود في هذه اللوحات (ص29-1-130). 

ومع هذه الزوجة المسيحية المتعصبة، والسكرتير الأول الأشد تعصبًا لمسيحيته (فريد شحاته) أصبح طه حسين واقعًا بين حصارين، ورهينًا لمحبسين، فوق المحبسين.. ذلك أنهما (سوزان وفريد) لم يدخلا حياة طه حسين من فراغ، ولم تلق بهم الأيام بين يديه جزافًا… فيتخذ من هذه زوجة، ومن هذا سكرتيرًا..

زوجة طه حسين ترتكب هذه الجرائم:

1-تسمي أولاده بأسماء مسيحيين عمدًا.

2-ترفض بإصرار أن تتعلم اللغة العربية.

3-تمنعه من الصدقات وصلة الأرحام.

4-تحول بيته إلى كرنفال كنسي.

5-ترفض الإسلام إلى آخر يوم في حياتها.

6-تدير من خلاله مشروعًا ثقافيًا ضخمًا للاستلاب والتبعية.

7-تدجن طه حسين ليكون ربيبًا للصهيونية والاستشراق.

8-تبارك زواج حفيدتها (ابنة مؤنس طه حسين) من شاب بوذي.

فسوزان التي كان عمها قسيسًا.. قد رفضت (طه حسين) في البداية عندما تقدم للزواج منها بعد ما صارحها بحبه لها.. فعلى الرغم من أنها كانت تقرأ له، وتعطف عليه، وتعينه، وقد تعلق بها قلبه ووجدانه اللذان يحس بهما في غربته التي عاشها في باريس. (د. عمارة، ص32) . فقد كانت بالنسبة له، على حد قوله: «الملاك الذي أغدق عليّ من الحنان والرعاية ما أغدق».. إلا أنه كان بالنسبة لها «أجنبي.. ومسلم.. وأعمى».

عندئذ تدخل عمها القس المتشدد الواعي.. حيث رأى بعينه التبشيرية النافذة في طه حسين.. مشروعًا يصعب التضحية به، فأقنع (سوزان) بتبني هذا المشروع الذي يجب (غرسه على ضفاف النيل). [د. عمارة، ص33].

وبعد نزهة منفردة، قضاها ذلك القسيس مع طه حسين، أقنع ابنة أخيه (سوزان) بالزواج من طه حسين، وأقرت الزوجة بعد ذلك أن طه حسين ظل يردد حتى النهاية: «لقد كان عمك القسيس أحب رجل إلى نفسي» [معك، ص 24] .

وكان لهذا الزواج أثره الانقلابي في فكر وحياة طه حسين، في فترة تألقه العلمي والفكري، وسط هالة علمية ملؤها الضجيج والعجيج الاستشراقي، الذي بهر الرجل وملأ أذنيه طبلاً داويًا.. حتى أدار رأسه. وطرحه أرضًا.

وأما ذلك السكرتير المسيحي القبطي (فريد شحاتة) الذي انقلب على طه حسين وفضحه بعد موته.. فقد كان منتدبًا من قبل «الجيزويت».. ليكون العين الباصرة، والحاسة الرقيبة لطه حسين .. وكان لا يتحدث معه إلا بالفرنسية، ولا ينادي أولاده إلا بأسمائهم الفرنسية حيث كان (مؤنس) هو (كلود)، و(أمينة) هي (مارجريت). [أنور الجندي، ص103] .

هل كان العميد محاصرًا

ولكن.. هل كان طه حسين بكل ثقافته وخبرته وذكائه وحكمته.. من الاستسلام بمكان… حتى أسلم نفسه أسيرًا حسيرًا بين يدي هذه السيدة التي لا تحب دينه.. ولا لغته.. حتى النفس الأخير؟

وهل كان دين طه حسين هينًا عليه،.. ليكون في كل أسبوع، على موعد يوم الأحد، إما لذهاب زوجته إلى القس والكنيسة، أو لإتيان القس إلى بيته ، وتحويله إلى كنيسة خاصة؟

وما المقابل الذي يضطر طه حسين إلى الخنوع والركوع أمام هذه السيدة التي ظل يقول فيها طول عمره: «لقد قرأت أنا وهي الأدب الكلاسيكي الفرنسي، وعاونتني في دراسة اللغة اللاتينية، وفتحت أمامي آفاقًا فكرية.. وأثرت في ثقافتي، وأدبي تأثيرًا واضحًا. [الدسوقي 30].

تلك الزوجة (سوزان) التي كان عمها القس الماكر، قد أقنعها من الزواج من ذلك (الأجنبي.. الأعمى.. المسلم) بعد ما اشترطوا عليه ما اشترطوا.. ما كانت سوى عاملة على صندوق حلاقة بمحل خدمة في الحي الجامعي بباريس..

لكنها كانت شِصًا حادًا أنشب القس الواعي إحكامه في خيشوم طه حسين، وظلت سوزان تمسك بطرفه طوال حياة الرجل.. في الداخل والخارج.. في إصرار واضح وعجيب.. لكي تجتاله من لغته وأهله وحضارته ودينه.. إلى لغتها وأهلها وحضارتها ودينها.. وفق مشروطية عمها القس العتيد.

تزوج طه حسين (1307 – 1353هـ) (1889 – 1973م) من زوجته الفرنسية (سوزان برسو) في عام 1917، وكان قد لقيها أول مرة في «مونبلييه» في 12 مايو 1915 عقب ابتعاثه إلى فرنسا عام 1914 للدراسة بجامعة «السربون» وذلك بعد حصوله على أول دكتوراه من الجامعة المصرية عام 1914م، بعد تمرده على الدراسة بالأزهر الشريف، وهناك حصل على الدكتوراه من السوربون عام 1917 عن رسالته «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» كما نال إجازة الآداب عام 1917م والدبلوم العالي في التاريخ القديم، وأجاد اللغات اللاتينية واليونانية والفرنسية.

هل كان طه حسين يومًا بوقًا للغرب وعرّابًا للمستشرقين الصهاينة؟

ولكن رفيقه بالبعثة، د. محمد نجيب البهبيتي، يطلق إشارة حمراء بخصوص حقيقة الحياة العلمية لطه حسين، فيقول: لم يكن أمام التبشير أثمن من هذه «اللقطة» النادرة القابلة للتكيف العلمي على أية صورة تشكل لها، فقام ببعث طه حسين ليصنع هناك تحت أعينهم، وبُعِث رغم أنف الجامعة، كما أن رسالته رُفِضَت، لأنه لم يكن قد اجتاز مرحلة التعليم الثانوي الفرنسي، واعترف في مذكراته بأن السؤال الذي وجه إليه في امتحان الليسانس لم يكن في موضوع البحث، وإنما كان في الإمبراطورية الأموية، ولم يخف أن الفضل في هذا الانحراف عن الاختبار في موضوع البحث والشهادة -وهو التاريخ الروماني- يرجع إلى فضل تلك الورقة التي قدمتها امرأته من القسيس إلى لجنة الامتحان (أنور الجندي، مرجع سابق ).

وبخيوطها الحريرية التي تقتل بنعومة وحدّة بالغة، عاشت هذه الزوجة الفرنسية وهي محتفظة بخصوصيتها الدينية والفكرية والثقافية من أول يوم حتى آخر يوم في حياته، فلم تتنازل قيد شعرة عن ذاتها ومكوناتها لحساب الشيخ طه حسين.. الذي بُهر وسُحر.. بكل ما لدى الغرب الذي يجب أن يسر القلب.. حتى أنه قال قولته المشهورة: (يجب أن نأخذ كل ما لدى الغرب.. ما يحمد منه وما يعاب).. [مستقبل الثقافة في مصر، طه حسين]

يقول الدكتور محمد الدسوقي (السكرتير الثاني لطه حسين، بعد سكرتيره الأول فريد شحاتة ، لمدة عشرين عامًا): كان طه حسين يتمنى أن يصل أقاربه ببعض الصدقات، ولكن سوزان كانت تأبى عليه ذلك، وكثيرًا ما كانت تؤنبه بكلمات قاسية، يحاول هو أن يمحو آثارها التي تبدو عليه وعلى وجهه، وأعصابه وطريقة كلامه، ولكنه كان يستحلفني سرًا أن أكتم عنه، وأستر عليه، ويعطيني بعض هذه المظاريف الخاصة، لكي أقوم بأداء هذه الأمانة عنه [د. محمد عمارة، ص 104].

وقد أكد ذلك -وأضعافه- الدكتور الدسوقي في مقابلة تليفزيونية لي معه علي قناة (أزهري) في حلقات هامة من برنامج (للتاريخ)

وآية ذلك السلطان القاهر، لهذه الزوجة (المؤامرة) التي أحكمت قبضتها على عقل وفكر وسلوك وحركة وقلب ودين طه حسين، تتجلى في ولاء وانتماء أبنائها من طه حسين..

 (أمينة) التي أصرت على تسميتها (مارجريت)….

 (ومؤنس) الذي أطلقت عليه (كلود)..

 وقد نال درجة الدكتوراه من فرنسا عن تأثير الآداب الإسلامية في الأدب الفرنسي، ويقال إنه تنصر، ومات نصرانيًا في فرنسا [د. محمد عمارة، ص 11].

وإلى جانب استلاب الرجل (طه حسين) تم استلاب أبنائه، وتجنيدهم بكل تسلط وإصرار.. كإحدى أهم حلقات المؤامرة وأكثرها آثارًا وأضرارًا.

العميد بين الأمس واليوم

أيمكن أن يكون طه حسين الذي نراه الآن.. هو طه حسين الذي نشر في أغسطس عام 1909 قصيدة شهيرة، يطالب الحكومة فيها بالتطبيق الفوري للشريعة الإسلامية ومن أبياتها:

أنفذوا حكمها على كل جانٍ ::: لا ينلكم من دون هذا فتـور

ارجموا.. اجلدوا كما أمر اللـ:::ـه يجانبكم الخنا والفجـور

نسيت مصر دينها فعداهـا ::: كل خير وجللتها الشــرور

نعم يمكن أن يحدث.. وأكثر.. 

إنها زوجة العميد التي عاشت في مصر أكثر من نصف قرن، وهي مصرة ألا تعرف اللغة العربية أو تتعلمها، قراءة أو كتابة، وكل ما كانت تعرفه منها، بضع كلمات عامية.. تنطقها في لكنة «أعجمية» تخاطب بها العاملين في البيت.

فلماذا لم تدرس هذه اللغة وهي تعيش في مجتمع عربي، ومع زوج كفيف يترأس مجمع اللغة العربية، واللغة العربية هي كل رأسماله، وحولها وبها.. ذاع صيته بين الناس،

طه حسين يتقلب بين الحصار المسيحي من زوجته وسكرتيره الخاص.. والحصار الصهيوني من المستشرقين واليهود.

 وكم هو محتاج إلى من يقرأ له في أي وقت، رسالة أو برقيه بالعربية.. مع أن أولادها تعلموا العربية منذ الصغر في البيت، وكان يمكنها أن تدرس مع أولادها لو رغبت.. ولكنها لم تفعل.

إنه التعصب والاستعلاء والرغبة المُلحة في الاعتراض والصدود.. حيال لغة القرآن -التي كانت تراها لغة ليست جديرة بتعلمها- خاصة مع تعصبها الشديد للفرنسية، التي كانت لا ترى الاعتراف بلغة سواها. [الدسوقي، 130].

نعم.. كانت سوزان هي صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في بيت طه حسين بكل ما فيه ومن فيه! من النطق والكلام.. حتى الفكر والنظام.

هذا ما يؤكده كل من صادق أو عامل، أو رافق طه حسين، في حله أو سفره، في غربته أو أوبته.. في شبابه أو في    شيخوخته..

تقول سوزان عن رحلة خلوية مع طه حسين: «وفي القناطر، أثناء رحلة خلوية ذات مساء، حملت هدية عيد ميلادي، وكانت عبارة عن تسجيل لقداس من مقام سي.. لباخ».

ولم يكن دور سوزان في الداخل، بأقل خطورة من دور المستشرقين في الخارج، الذين سيطروا على طه حسين سيطرة فكرية بالغة، ولم ينعتق طه حسين منهم إلا في النادر القليل، الذي استفحل فيه خطأه ،  واستبان فحشه.. بحيث أصبح لا يواري ولا يداري !!!

وظل الثلاثي الاستشراقي الشهير: «نالينو»، و«ساتيلانا»، و«ماسينيون»، يعملون عملهم في رأس طه حسين، وقد كانت علاقة ثلاثتهم بإدارة المخابرات في وزارة الخارجية الفرنسية لا تخفى على أحد، خاصة «ماسينيون» الذي أصبح بعد ذلك عضوًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، والعجيب في الأمر أن طه حسين نفسه، قد حذّر منه عدة مرات. 

فيلق الاستشراق

إلى ما سبق.. فإن اتصال طه حسين المبكر بجماعة من المستشرقين اليهود المسيطرين على جامعة السربون، وفي مقدمتهم اليهودي الضالع «دوركايم» وتبني آراءه في العلوم الاجتماعية، وفي ابن خلدون علي وجه الخصوص، وفي بشرية الأديان السماوية المنزلة، كان من عموم البلوى التي ظهر أثرها البالغ في أكثر من موضع في كتابات وأفكار ورؤى الشيخ طه حسين.

عاشت زوجة طه حسين حياتها كلها وهي مسيحية متعصبة تذهب ببيتها كل أسبوع إلى الكنسية، أو تأتي بالكنسية إلى البيت.

و«دوركايم» كان رأس مدرسة العلوم الاجتماعية التي تستمد مصادرها الأساسية من النظرية الماركسية، والتفسير المادي للتاريخ (ماركسية صهيونية).

وفي مطالع شهرة طه حسين الفكرية والأدبية، هز الناس رأيه البالغ الجرأة الذي شكك به في وجود أنبياء الله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وإنكار وجودهما وذهابهما إلى مكة وبناء البيت الحرام، في عباراته الجانحة الشهيرة (إنه مهما ذكر ذلك القرآن وذكرته التوراة فإنه لا يعترف به).

إلى جانب تلبثه، وتلبسه، برأي «مرجليوش» اليهودي في الشعر الجاهلي وما يتضمنه من أخطار عقدية، وقد أحسنت الباحثة التونسية بسمة حجام بن عثمان، في دراستها المعمقة (الشعر الجاهلي بين طه حسين ومرجليوث) حيث وضعت دراسة طه حسين ومرجليوث وجها لوجه، ليتبين لنا مدي التطابق المضحك بين (الشيخ طه) و(داڤيد مرجليوث).. والمعروف بتعصبه الشديد ضد الإسلام.

وكذلك فعل العلامة الدكتور إبراهيم عوض، في دراسته التي طرح فيها إجابة علمية شافية، حول نظرية طه حسين في الشعر الجاهلي، (سرقة أم ملكية فكرية)؟!

وانتهي من خلال  عشرات القراءات، إلي أنها سرقة مع سبق الإصرار والترصد، وقد تجلى ذلك الاسترقاق الاستشراقي لطه حسين في استقدامه لليهودي «إسرائيل ولفنسون» من فرنسا، حيث أعده لتقديم أطروحته المشهورة عن «اليهود في جزيرة العرب» ثم أتى بعد ذلك باليهودي الآخر «بول كراوس».. ليعملا أستاذين بالجامعة.. تحت رعاية طه حسين نفسه. 

كما كانت لطه حسين صداقات ومراسلات مع الشاعر الفرنسي الشهير (أراجون)، و(أندريه جيد)، والربيب الفرنسى، الرئيس السنغالي، نجم الفرانكفونية الإفريقي (ليبولد سنجور)، وغيرهم.

هذه العلاقات الخاصة جدًا، أخفت سيدة الدار (سوزان) وثائقها الخاصة عن كل الدارسين والباحثين، ولم تشر إليها في ذكرياته التي نشرتها عنه، ولا حتي أشار إليها زوج ابنته الدكتور محمد حسن الزيات، وزير خارحية مصر الأسبق، الذي كان مستأمنا من الأسرة علي كل مكاتبات طه حسين، حيث سلم مجموعة منها (٨٢ رسالة ) للكاتب الصحفي نبيل فرج، عبارة عن إحدي وثلاثين رسالة كتبها طه حسين، وإحدى وخمسين رسالة تلقاها من أصدقائه وتلاميذه.

من أمثال خليل مطران، وشكري فيصل، وتوفيق الحكيم، وعبد الرحمن الرافعي، ومحمد فريد أبو حديد، وعلي أدهم، والآنسة مي زيادة، وعباس حافظ، وفؤاد افرام البستاني، ومحمد مندور، والتي لا تحمل أية خفايا أو أسرار، إنما تدور جميعا في الشأن الدراسي العام.

وكان ذلك بعد رحيل طه حسين (٢٨ أكتوبر ١٩٧٣) بعشرين عاما ،حيث كان الدكتور الزيات يعيش وحيدا بمسكنه بشارع حسن صبري بالزمالك ،بالقاهرة

ثالثة الأثافي

وفي هذه الفترة -الأربعينيات- تم غمس طه حسين حتى أذنيه في المشروع الصهيوني الكبير في المنطقة، كان أبرزها زيارة طه حسين للجامعة العبرية في القدس، وزيارة إسرائيل التي لم تولد بعد، وقد أشار (إسحاق نافون) رئيس إسرائيل إلى هذا الحدث الخطير في كلمته التي ألقاها في مصر بعد رحيل طه حسين، ونشرتها الصحف في 17/1/1980م، عندما صحب طه حسين في زيارته لبعض القرى التعاونية الإسرائيلية، وقد تبين أن هذه الزيارة هي الزيارة الثانية، ولم تكن الأولى!

فقد أعلن السندباد (د. حسين فوزي) أنه زار إسرائيل عام 1944 مع طه حسين، الذي كان مديرًا لجامعة القاهرة حينذاك، وقد طلب د. محمود فوزي قنصل مصر في القدس، إلى طه حسين ألا يخبر أحدًا من العرب أنه اتصل بأحد من اليهود من قبل!

كيف انقلب طه حسين من النقيض إلى النقيض.. وما هي أبعاد المؤامرة؟

ويقول حسين فوزي: وقد صحبت طه حسين لزيارة كلية العلوم بالذات، للاستدلال على مصادر الكتب الحديثة في أمريكا، وآخر مبتكرات العلم.

ثم هناك زيارته المتكررة للمدارس الإسرائيلية في مصر، ومحاضراته فيها التي كان يردد خلالها: «أن اليهود لهم حضارة متميزة تأثرت بها الجزيرة العربية في فجر الإسلام».

أما الأمر الجلل.. والخطر الأكبر، فهو تولي طه حسين عمله كمستشار لدار (الكاتب المصري) اليهودية، التي تديرها وتمولها أسرة «هراري» اليهودية الرأسمالية ما بين عام 1945 إلى مايو 1948م [لاحظ أن إعلان إسرائيل كان في 15 مايو 1948] وكانت هذه الدار تصدر مجلة «الكاتب المصري» الشهرية. كما أصدرت عددًا من المؤلفات المترجمة ذات الغرض الواضح..

ومن المعروف أن هذه الدار قد أنهت مهمتها بعد قيام إسرائيل في ١٥مابو ١٩٤٨م، فلم تعد تفي بحقوق الكتاب، ولا بحصة الورق، وتركت الدار لمصيرها من الدين والإفلاس، إلي الحد الذي جعل طه حسين يتفق مع سكرتير تحرير المجلة حسن محمود، علي أن يصدرا وحدهما (هو وطه حسين) عدد أغسطس وسبتمبر من المجلة، حتى أن طه حسين قام بتحرير عدد أغسطس بكامله وحده عام ١٩٤٨ ، ولم يجد ما ينشره سوي ترجمته لقصة (زاديج) أو (القدر) لڤولتير.. كسد خانة!

مما اضطر المجلة للإغلاق هي ودار النشر التابعة لها، وليقول طه حسين كلمته الأخيرة في العدد الأخير من المجلة سبتمبر ١٩٤٨ «لقد أرجف المرجفون والذين يسرهم الطعن في طه حسين، والذين لا يعملون ويؤذي نفوسهم أن يعمل الناس» (كان طه حسين قد جعل هذه العبارة إهداء لكتابه «مع أبي العلاء في سجنه» الذي نشر من قبل عام ١٩٣٥ م)

ثم يضيف طه حسين،

 وقالوا: «إن مجلة الكاتب المصري قد صدرت لنشر الصهيونية، والآن وقد انتهي عمر المجلة، فإن أعدادها كلها بين يدي القراء، فهم لا يرون فيها إلا دفاعا عن مصر والعروبة، بقدر الوسع والطاقة»

هذا، إلى جانب تبني طه حسين حتى آخر يوم في حياته فكرة تبرئة عبد الله بن سبأ اليهودي من اتهامه بصناعة الفتنة الكبرى وإثارتها بين المسلمين، مما أدى إلى مقتل الخليفة الصالح ذي النورين عثمان بن عفان، الأمر الذي أدى إلى أن يضع اليهود الصهاينة طه حسين فوق رؤوسهم، فقد كانوا يعدون له نشيدًا خاصًا للترحيب به عندما يذهب لزيارة مدارسهم الإسرائيلية أو يلقي فيها محاضراته.

وكان صديقًا صدوقًا للحاخامين المجرمين الشهيرين «أبراتون وفنتورا» كما خصصوا جائزة باسم طه حسين كانوا يمنحونها للمتميزين من طلابهم (مجلة الشمس 7/1/1944).

أرأيت إلى أي مدى كان عميد الأدب العربي.. قاهر الظلام.. الدكتور طه حسين… خادمًا أمينًا للفكر الصهيوني القديم والحديث؟!.

وأخيرًا.. وليس آخرًا.. نسوق هذه الشهادة من العالم العربي المغربي الأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي -والتي سمعها منه المفكر الكبير د. محمد عمارة بنفسه- حين يقول: عندما دعا الملك محمد الخامس (1327 – 1381) (1909-1961م) طه حسين لزيارة المغرب، كان الدكتور التازي هو المعين من قبل الملك مرافقًا لطه حسين، وفي أحد أيام الزيارة، طلب طه حسين من التازي، أن يذهب إلى مسجد القرويين ليصلي ركعتين، لكنه طلب منه كتمان أمر هذه الزيارة وهذه الصلاة عن (المدام) (يقصد سوزان..)!!!

وهكذا.. أحكمت (سوزان) رقابتها ووصايتها وقبضتها على طه حسين في الداخل والخارج.. ووزعت ولاءه بين المسيحية والإسلام، وهو ما كشف عنه مبكرًا محمد محمود بدير في مقال شهير

عميد الأدب العربي طه حسين يتزوج من «سوزان برسو» على مشروطية عمها القسيس.

له بمجلة (النهضة الفكرية) التي كانت تصدر بالقاهرة في ثلاثينيات القرن الماضي.

من كان يظن.. أو يتخيل.. أن هذه الفتاة الفقيرة، تبلغ ما بلغت؟ وهي التي كانت لا تملك والدتها مصدرًا للدخل سوى تلك الشقة الصغيرة، التي كانت مأوى للنزلاء الدارسين الأجانب بفرنسا، ومنهم طه حسين نفسه، الذي تم اصطياده وتجنيده انطلاقًا من هذه الغرفة الضيقة.. وبدأ مشواره بصحبة سوزان مكبلاً بخيوط الحرير بدلاً من سلاسل الحديد.

وكانت «سوزان» تحاول أن تتعيش ووالدتها، بتحسين دخل الأسرة من العمل على صندوق حلاقة في الحي الجامعي بباريس، وما كان طه حسين في تلك المؤامرة سوى «شن وافق طبقة».. على حد تعبير مثلنا العربي القديم.

ختامًا…

يقول طه حسين فيما نشرته له (الهلال عام 1911) لقد ذهبت مقوماتنا، وضعفت أنفسنا، وزالت مميزاتنا الجنسية، وأصبح من اليسير أن تندمج طباعنا في طباع غيرنا من الأجانب، لذلك يجب علينا أن نحتاط كل الاحتياط في تزوج المسلم بالكتابية الأوروبية، ولست أرى عليّ من بأس إن قلت: إنه الآن «حرام»، «ممقوت»، لأن النتيجة هي أن يصبح الرجل وبيته  وأبناؤه وبناته أوربيين في كل شيء!!

وكذلك ما نشره طه حسين بمجلة (الهداية) عام ١٩١١ عن المرأة والزواج، وتبغيضه الزواج بالكتابية لما سيصطبغ به البيت من صبغة أجنبية، وكان يمزح ويسخر من ذلك (سهير القلماوي، ذكري طه حسين،ص٥٠)

وطه حسين.. هو الذي وقف أمام اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية، وقد ترأسها عام 1955م.. ليقول: «إن الإسلام هو الذي أقام الوطن المقدس، الذي صنع الإنسان المسلم على امتداد عالم الإسلام،

وإن لكل مسلم وطنين:

وطنه الذي نشأنه فيه..

وهذا الوطن المقدس الذي أنشأ أمته، وكوّن عقليته وقلبه وذوقه وعواطفه جميعًا..

هذا الوطن الذي جعله عضوًا صالحًا مصلحًا في هذا العالم».

لكن الأقدار مضت ووضع طه حسين وراء ظهره، كل ما سبق، ورآه حرامًا ممقوتًا، حين عاد من فرنسا مبهورًا بكل ما له علاقة بالفكر الغربي.. وزكى هذا الانبهار، وأحكم هذا الحصار .. ربة بيت مسيحية في كل شيء. أوروبية في كل شيء.. حتى في عطفها الممنهج على طه حسين.. صاحب أكثر الأصوات ضجيجًا وصخبًا في أدبنا وفكرنا وثقافتنا العربية الإسلامية المعاصرة.

ورحم الله العلامة الفقيه د. محمد يوسف موسى إذ كان يقول: لو أن لي من الأمر شيئًا لأصدرت قانونًا يحظر الزواج بالكتابية، كما حظر الفقهاء بالإجماع الزواج بالمشركات الوثنيات.

هذا.. ولم تبلغ المؤامرة منتهاها بعد. فآثار (سوزان برسو) وعمها القسيس.. مازالت تعمل في مادة الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة.. مهما أحدث طه حسين من تراجعات ومراجعات.. فالسهم قد مرق، بفعل هذه الزوجة المتعصبة، التي وزعت ولاءه بين المسيحية والإسلام، وهو ما كشف عنه محمد محمود بدير، (كما أشرنا سابقًا، في مجلة النهضة الفكرية) في حينه.. مما حدا بالمفكر الدكتور محمد محمد حسين إلى أن يقول في عميد الأدب العربي.. د. طه حسين: «ما هو إلا بوق من أبواق الغرب، وواحد من عملائه الذين أقامهم على حراسة السجن الكبير، يروج لثقافاته ويعظمها ويؤلف قلوب العبيد ليجمعهم على عبادة جلادهم». «وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم». [سورة النور:15] 

وإلا.. فلماذا لم يشرب من نفس الماعون، رفيقه في البعثة والرحلة دكتور محمد صبري السربوني.. مع الأخذ في الاعتبار أن السربوني كانت زوجته أيضًا أوروبية.. وكان اسمها «سوزان» أيضًا!!!!

ومواقف التذؤب لسيدة «راماتان» الصارمة لا تنتهي.!

يلخصها جميعًا هذه الطامة التي انتهى إليها بيت طه حسين «العميد» المغلوب على أمره… والتي يرويها ابنه (مؤنس – كلود) المقيم بفرنسا حيث يقول: «يوم تزوجت ابنتي قبل عشر سنوات -كان ذلك عام 1993م- من شاب ياباني بوذي، جاءت أمي من القاهرة لتشاركني الفرح!

وسألها أحد أصدقاء الوالد: ألا يصدمك أن تتزوج حفيدتك من شاب ياباني بوذي؟!

فأجابت بسرعة: لا!

فأردف المتحدث سائلاً من جديد: لماذا؟

فأجابت بحدة: طالما جدتها قبل ستين عامًا قد تزوجت شابًا عربيًا مسلمًا وهي الفرنسية المسيحية الكاثوليكية، فمن حقها أن تصنع مثل جدتها.

تلك كانت بعض الثمار السامة لسيدة الدار والقرار والمسار (سوزان برسو).. التي زرعت «شجرة البؤس» في بيت العميد المغلوب على أمره.. طه حسين، من أول يوم عرفها فيه، إلي بوم وفاتها في ٢٦ يوليو ١٩٨٩، ودفنها بالمقبرة اللاتينية، بمدافن القاهرة القديمة

أهم المـــراجع:

1- أعداد مختلفة من مجلات (الهلال – الكاتب المصري – النهضة الفكرية – الشمس).

2- أنور الجندي: أكذوبتان في تاريخ الأدب الحديث، أحمد لطفي السيد وطه حسين، دار الأنصار، القاهرة، 1979م.

3- ثروت أباظة: شعاع من طه حسين، روز اليوسف، القاهرة، 1974م.

4- جريمة الزواج بغير المسلمات: د. عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، يناير 1983م.

5- جمال عبد الهادي وآخرون: دعوة لإنقاذ التعليم (الزور والبهتان فيما كتبه طه حسين في «الشيخان»)، دار النشر والتوزيع الإسلامية، القاهرة، 1991م.

6- رشيد الزواوي: أدباء مصر، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 1995م.

7- طارق العماوي: وثيقة تاريخية (تحقيقات النيابة العامة مع طه حسين) بتاريخ 30 مارس 1927م، دار الفكر العربي، القاهرة، 1990م.

8- طه حسين حياته وفكره في ميزان الإسلام: أنور الجندي، دار الاعتصام، القاهرة، بدون تاريخ.

9- طه حسين: مرآة الإسلام، تقديم ودراسة د. محمد عمارة، هدية هيئة كبار العلماء، مجلة الأزهر، صفر 1440هـ – أكتوبر 2018م.

10- عبد الحميد إبراهيم: الوثائق السرية، طه حسين، دار الشروق، القاهرة، 2006، ط1.

11- عبد الوهاب التازي: طه حسين في المغرب، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1420هـ/2000م.

12- فاطمة بنت حميد الحسني: فكر طه حسين في ضوء العقيدة الإسلامية، رسالة ماجستير، كلية أصول الدين، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، (1430-2009).

13- قراءة جديدة لفكر طه حسين: د. محمد محمد أبو ليلة، دار الفكر العربي، القاهرة، 2006م.

14- مجلة النهضة الفكرية، القاهرة، عدد نوفمبر 1932م.

15- محمد أبو ليلة: قراءة جديدة في فكر طه حسين، دار الفكر العربي، 1426هـ/2006م.

16- محمد سيد كيلاني: طه حسين الشاعر الكاتب، دار القومية العربية للطباعة والنشر، القاهرة، 1963.

17- محمد سيد كيلاني، فصول ممتعة، دار العرب للبستاني، القاهرة، 1959.

18- محمد عبد الحليم عبد الله: قضايا ومعارك فكرية، دار الشعب، القاهرة، 1974م.

19- محمد عمارة: طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام، هدية مجلة الأزهر، القاهرة، ذو القعدة 1435 – سبتمبر 2014م.

20- محمد فريد وجدي: نقد كتاب الشعر الجاهلي، قدّم له د. غريب جمعة، مكتبة الآداب، القاهرة، 2004م، عن الطبعة الأولى، 15 أكتوبر 1926م.

21- محمود الورداني، ثمن الحرية، مركز القاهرة للدراسات، (على هامش المعارك الفكرية والاجتماعية في التاريخ المصري الحديث) وحقوق الإنسان، القاهرة، 2004م

22- مع العميد في ذكراه: د. محمد الدسوقي، القاهرة، دار المعارف، سلسلة (اقرأ)، 2013م.

23- معك: سوزان طه حسين، ترجمة بدر الدين عروركي، مراجعة محمود أمين العالم، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009م.

24- وديع فلسطين: طه حسين، دار مطابع المستقبل، مكتبة المعارف، بيروت، 2002م.

25- د. مصطفى عبد الغني: الوجه الآخر لسوزان طه حسين، مجلة الهلال، القاهرة، مارس 1993م

26- بسمة حجام: الشعر الجاهلي بين طه حسين ومرجليوث، دار عيون، ط١، تتونس، ديسمبر ٢٠١٤ م

 27- إبراهيم عوض: أصول الشعر العربي، ترجمة وتعليق ودراسة، دار الفردوس، بيروت، ٢٠٠٦م

د. محمود خليل

مدير عام برامج علوم القرآن بشبكة القرآن الكريم من القاهرة‏ وكبير مذيعيها سابقًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights