يقول الله تعالى:
{أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} الزخرف/ 18.
جاء في تفسير ابن كثير للآية: (أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين):
(المرأة ناقصةٌ يكمُل نقصُها بلبس الحليّ منذ تكون طفلة، وإذا خاصمت فلا عبارة لها، بل هي عاجزة عَيِيَّة، أوَ مَن يكون هكذا يُنسَب إلى الله عز وجل؟!، فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن، في الصورة والمعنى، فيكمُل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحُليّ وما في معناه، ليَجْبُرَ ما فيها من نقص، وأما نقص معناها، فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار، لا عبارة لها ولا همَّة…).
وفي كثير من كتب التفسير نجد كلامًا مشابهًا، حيث يجعلون المُراد في الآية هو المرأة التي تُنَشَّأ في الحِلية والزينة، وأنّها لا حُجّة لها عند الخِصام، وأنّه لا ينبغي أنْ تُنسَب هذه المرأة والأنثى الضعيفة العاجزة الناقصة إلى الله تعالى، – مع أنّه لا يجوز أنْ يُنسَب إلى الله تعالى أيّ مخلوق ذكرًا كان أم أنثى -، فالله تعالى هو الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يُولد، فهل يُعقل أنْ يكون هذا المعنى الذي تتحدث عنه كتب التفسير هو المُراد بقوله تعالى: (أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين)؟
وهل السياق واللغة يخدمان هذا التوجّه في التفسير؟
وحتى نفهم المُراد بالآية الكريمة لا بدَّ لنا أنْ ننظر إليها من خلال السياق الذي جاءت فيه، سواءً كان هذا السياق سابقًا، أو لاحقًا.
والآية جاءت في السياقات التالية:
1- سياق الإنكار على الكفار والمشركين الذين يجعلون الملائكة إناثًا، وفي هذا يقول الله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون) {الزخرف: 91}.
2- سياق اتِّهام الكفار لله تعالى بأنّه يتّخذ من الملائكة بناتٍ، تعالى الله عمّا يفترون عُلوًّا كبيرًا، يقول الله تعالى: (وجعلوا له من عباده جزءًا إن الإنسان لكفور مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين) {الزخرف: 15-16}.
3- سياق استياء بعض الكفار من إنجاب الإناث، وكظمهم الغيظ في صدورهم، وإقدام البعض على وأد ابنته، يقول الله تعالى:
{وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسودًا وهو كظيم} الزخرف/ 17.
فالآية من خلال هذه السياقات تتحدث عن الكافر (الرَّجُل) المُنَعَّم الذي إذا رزقه الله بالأنثى ظلّ وجهه مسودًّا وهو كظيم يتوارى من القوم من سُوء ما بُشِّر به، وهو في الوقت ذاته يتَّهم الله تعالى بالاتهامات الباطلة كاتخاذه – سبحانه – ممّا يخلُق بناتٍ، كما في قوله تعالى:
(أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين) الزخرف/ 16.
ومن الناحية اللغوية فإننا نجد أنّ الحديث في الآية:
{أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} الزخرف/ 18، جاء عائدًا على هذا الرجل الكافر الذي يعترض على تبشيره بالأنثى، وليس على المرأة، كما جاء في بعض الأقوال.
فالضمير في قوله تعالى:
(أومن ينشأ) يعود على قوله تعالى: (أحدهم)، في قوله تعالى:
(وإذا بشر أحدهم بالأنثى)، وهو رجلٌ مذكَّر، وليس أنثى، ولو أراد الله تعالى الحديث عن المرأة لقال الله تعالى: (أوَمَن تُنَشَّأ في الحِلية).
والضمير في قوله تعالى:
(وهو في الخصام غير مبين)، ضمير مُذكَّر يعود على نفس الرجل الذي بُشِّر بالأنثى فظلَّ وجهه مُسودًا وهو كظيم، ولو أراد الله تعالى الحديث عن المرأة لقال:
(وهي في الخصام).
وممَّا يؤكِّد ما نذهب إليه: أنّ كلمة (الحِلْية) لا يقتصر مدلولها ومعناها في اللسان العربي على ما تتحلَّى به النساء من الذهب والجواهر، بل إنّ الحِلْية تتعلق أيضًا بالرجل، وتُستعمل للدلالة على صفته، وصورته، وخِلقته، والنِّعمة التي تَرَبَّى ونَشَأ فيها، وهو ما نجده صريحًا في قواميس ومعاجم اللغة على النحو التالي:
(الحِلْية):
جاء في (لسان العرب) لابن منظور:
(الحِلْية: الخِلْقة، والحِلْية: الصفة، والصورة).
وجاء أيضًا:
الحِلْية: تَحلِيتُكَ وجهَ الرَّجلِ إذا وصَفْتَه).
وجاء في (معجم اللغة العربية المعاصرة) للدكتور أحمد مختار عمر: حِلْية الرجل: صفتُه وخِلْقتُه وصورتُه، ويقال: عرفتُه بحِلْيته: أيْ بهيئته.
وجاء في (كلمات القرآن تفسير وبيان) للشيخ حسنين مخلوف: (أوَمَن يُنَشَّأ في الحِلية)
أيْ: يُرَبَّى في الزينة والنِّعمة.
وعلى هذا يكون الكلام في الآية: (أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) عن الرجل الكافر المستكبر الذي أعطاه الله تعالى الصورة الجميلة، والخِلقة الحسنة، والهيئة القويمة السَّويَّة، وتربَّى ونشأ في النعمة والزينة، لا عن المرأة الزخرف/ 18
ويمكننا صياغة ما نفَهم من الآية السابقة على النحو التالي:
الآية تقول للرجل الكافر الذي يستكبر على عطاء الله تعالى، ويفتري عليه بغير علم:
يا مَن تفتري الاتهامات على الله تعالى ظلمًا وعدوانًا، ويا مَن تعترض على تبشيرك بالأنثى، كيف تتجرأ على الله تعالى؟
وكيف تقول هذه الافتراءات وقد أنشأك الله في (الحِلْيَة) وهي حُسن الخِلقة، والنِّعمة، والصورة الحسنة؟ وفي الوقت نفسه فأنت في وقت الخصام والمُحاجَّة والجدال لا حُجة لك فيما تقول على الله تعالى من اتهامات، ولا برهان لك ولا بيّنة لاعتراضك على تبشيرك بالأنثى.
إنّ الآية لا تتحدث عن المرأة، ولا مُسوِّغ لإقحامها في الآية إقحامًا، فقد جاء السياق يذُم الرجل الكافر المُنَعَّم الذي يفتري على الله تعالى الافتراءات، ويعترض على تبشيره بالأنثى، فيظلّ وجهه مسودًّا وهو كظيم، بل ويُقرِّر أحيانًا أنْ يدُسّ ابنته في التراب كما في قوله تعالى:
{وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بُشر به أيمسكه على هُون أم يدُسُه في التراب ألا ساء ما يحكمون} النحل 59-58