يقول الله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير * جنات عدن يدخلونها يُحلَّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا ولباسهم فيها حرير) فاطر: 32-33
هذه الآيات الكريمة تقول لنا: إنّ الله تعالى سيُدخِلُ الجنة عباده الذين اصطفاهم لميراث الكتاب، وهم سيكونون مختلفين ومتفاوتين في أعمالهم، وفي درجات اجتهادهم، وسيكونون في الجنة بحسب أعمالهم ودرجاتهم.
(ثم أورثنا الكتاب):
أيْ ثُمَّ جعلنا مآل الكتاب وهو (القرآن الكريم) إلى هذه الأمة المصطفاة، التي اختارها الله تعالى لتكون خير أمة أخرجت للناس كما في قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) آل عمران: 110، فهي أمة لا تعيش لذاتها في الأصل، بل أخرجها الله تعالى للناس، تنشر الخير، وتأمر بالمعروف وتشجع عليه، وتنهَى عن المنكر وتقاومه.
والله تعالى أورث الكتاب (القرآن الكريم) لهذه الأمة المؤمنة مهيمنًا على ما بين يديها من الكتاب الذي نزل على موسى عليه السلام، والكتاب الذي نزل على عيسى عليه السلام: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه) المائدة: 48.
وهؤلاء المُصطَفَوْن المؤمنون الذين أورثهم الله تعالى الكتاب هم أصنافٌ من الناس، وهم جميعًا من أهل الجنة، يُحلَّوْن فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا ولباسهم فيها حرير، ولكنهم متفاوتون في صفاتهم وأعمالهم، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله.
(فمنهم ظالم لنفسه):
والمؤمن على إيمانه وحبه للخير، واختياره لطريق الله تعالى، لكنه يضعف أحيانًا، وتغلبه نفسه، أو تخدعه وساوس الشيطان، فيقع في المعصية والمخالفة، وهو ما تشير إليه الآية: (فمنهم ظالم لنفسه).
فهو يُعَرِّض نفسه لفعل الذنوب، ويرتكب الصغائر أو الكبائر، لكنه في الوقت ذاته يقوم بالواجبات والفرائض، ويتطوع فيها أيضًا، ولا يُقصِّر في شيء مما افترضه الله تعالى عليه من صلاة وصيام وزكاة وحج إن استطاع، ويعمل الخيرات، ويُحسن إلى الناس، لكنه مع كل هذا يظلم نفسه فيرتكب المخالفات والمعاصي.
وظُلم النفس قد يقع من الأنبياء والمتقين والصالحين، لكنهم سرعان ما يستغفرون ربهم ويتوبون إليه، يقول الله تعالى: (إنّ الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) الأعراف: 201، وهذه بعض الأمثلة على ظلم النفس الذي وقع من الأنبياء والمتقين:
1- ما حدث من آدم وزوجه عليهما السلام حينما ظلما أنفسهما، وخالفا أمر ربهما، فأكلا من الشجرة التي نهاهما عن الاقتراب منها، فقالا: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الأعراف: 23.
2- دعاء نبي الله يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت: (وذا النون إذ ذهب مغاضبًا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) الأنبياء: 87، فهو يعترف بأنه ظلم نفسه ويطلب من الله المغفرة.
3- ما جاء في ذكر استغفار المتقين الذين فعلوا الفاحشة وظلموا أنفسهم: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) آل عمران: 135-136.
4- وقوله تعالى: (ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا) النساء: 110، وهو قول ينسحب على كل المؤمنين الذين اصطفاهم الله تعالى من عباده فأورثهم الكتاب.
5- وجاء في الحديث الصحيح أنّ أبا بكر رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: (قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) صحيح البخاري 834، وصحيح مسلم 2705.
ومما سبق يتبين أنّ المؤمن يمكن أنْ يظلم نفسه فيقع في المعاصي والذنوب، ولكنه يبقى مؤمنًا ومن الذين اصطفاهم الله تعالى لميراث الكتاب، وممن سيكرمهم بدخول الجنة.
(ومنهم مقتصد):
المُقتصد: هو المُتوسِّط بين طرفين.
والمقتصد في عمله: أيْ المُتزِّن في عمله، والمُسيِّر له بلا إفراط ولا تفريط، وبلا زيادة أو نقصان.
ونقول في كلامنا: الرجل يقتصد في كلامه، أيْ يوجز فيه، والرجل يقتصد في نفقته: أيْ ينفق بحساب ودقة.
وقوله تعالى: (ومنهم مقتصد) أيْ يكتفي بالفرائض والواجبات من غير زيادة أو نقصان، وهو يتوسط بين الظالم لنفسه، والسابق بالخيرات، ولا يُنكَر عليه هذا، وهو من أهل الجنة الذين اصطفاهم الله تعالى من عباده لميراث الكتاب، ويمكن التمثيل على هذا الصنف من الناس بما جاء في الحديث الصحيح من قصة الأعرابي:
(عن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نَجْدٍ ثائرُ الرأس، نسمع دويَّ صوته، ولا نفقهُ ما يقول حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: لا، إلا أنْ تطَّوَّع، وصيام شهر رمضان، فقال: هل عليَّ غيره؟ فقال: لا، إلا أنْ تطَّوَّع، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أنْ تطَّوَّع، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إنْ صدق) صحيح البخاري 2678، صحيح مسلم 11.
فالأعرابي مثال واضح على قوله تعالى: (ومنهم مقتصد)، فهو ملتزم بما يجب عليه، لا يزيد عليه شيئًا، ولا ينقص منه شيئًا، والنبي صلى الله عليه وسلم يُعَقِّب على ما سمع من الأعرابي بأنه: أفلح إنْ صدق.
(ومنهم سابق بالخيرات):
وهو الذي يلتزم بما فرض الله عليه، ويجتهد في الطاعات ويسابق إلى الخيرات، ويتطوع بالنوافل فنجده يقوم الليل، ويصلى الضحى، ويصوم عرفة، وستًّا من شوال، وغير ذلك، ويحافظ على السنن والنوافل، ولا يكتفي في الزكاة بإخراج ربع العشر، بل يزيد ويزيد، ولا يترك مجالًا للخير إلا ويسبق إليه.
كل هؤلاء الذين اصطفاهم الله من عباده سيُدخلهم الجنة، وسيلبسون الحرير، وسيحلون بأساور الذهب، ولن يحزنوا فيها، ولن يمسهم فيها نصب ولا لغوب: (جنات عدنٍ يدخلونها يُحَلَّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا ولباسهم فيها حرير * وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحَزَن إن ربنا لغفور شكور * الذي أحلَّنا دار المُقامة من فضله لا يمسُّنا فيها نصَب ولا يمسُّنا فيها لُغوب) فاطر: 33-35.
د. نصر فحجان – غزة