إن القرار التركي بتعليق التجارة التركية الإسرائيلية التي تجاوزت حتى نهاية 2023 حوالي 6.8 مليار دولار لتحتل تركيا صدارة الشركاء التجاريين لإسرائيل في الشرق الأوسط يمثل نقطة لا تحول بل نقطة «إعادة نظر» في العلاقة بين الطرفين،
ويبدو لي أن العوامل التي دفعت أردوغان الى هذا القرار هي:
1- النكسة الكبيرة في الانتخابات المحلية، إذ تدل أرقام الانتخابات الأخيرة عند نهاية شهر مارس الماضي أن الفارق بين الأصوات التي حصل عليها حزب العدالة تقل بفارق يقارب المليون صوت لصالح المعارضة، وأن المدن الست الكبرى ذهبت لصالح المعارضة (استانبول وانقرة وبورصة وأزمير وانطاليا وأضنا)، ويبدو أن هذه النكسة جعلت أردوغان يبحث عن قوارب نجاة من استمرار الاتجاه في تراجع شعبية حزبه، وأدرك أن «اقتصار مواقفه في الكارثة الانسانية في غزة على النقد اللفظي لإسرائيل، لم تَرُقْ لجمهوره»، بخاصة أن بعض الأوراق الانتخابية مكتوب عليها «خذلت غزة فخذلناك»، ولا شك أن مراوغات أردوغان خلال الشهور السبعة الماضية والتي بلغ فيها عدد الضحايا والجرحى في غزة أكثر من 120 الف لم تسعفه في إدراك أن «السياسي البراغماتي» قد لا يتفهمه أنصاره في مواقف تمس جوهر معتقدهم الأيديولوجي علمانيا كان أو دينيا، فصورة اليهودي في الذهن التركي وبخاصة الإسلامي منه هي صورة سلبية وعميقة، فإذا أضفنا لذلك السلوك الإسرائيلي الراهن والذي تعرض للنقد الحاد من قبل أغلب ضمائر العالم كله بما فيها البعض من حلفاء إسرائيل، تبين لنا قصور أردوغان عن تحسس المسافة الفاصلة بين «براغماتية السياسي» وبين «جمهوره العقائدي» بخاصة عندما تمس وقائع الراهن القيم العليا لدى هذا الجمهور، فأقوال نيتنياهو عن العماليق هو استحضار لإرث توراتي مريع يستفز المسلم بقوة، ووصف وزرائه لسكان غزة التي تحكمهم واحدة من أهم الحركات الإسلامية في العالم العربي بأنهم «حيوانات بشرية» لا تقل استفزازا، وتأكيد وزير دفاع نيتنياهو بأنه لن يسمح بدخول الماء أو الكهرباء أو الغذاء أو الأدوية لأكثر من 2 وربع مليون مسلم.. كلها تصرفات ستفز المسلم التركي وبحدة، لكن أردوغان بقي يراهن على براغماتيته في العلاقة مع إسرائيل، ثم حصد الشوك بيديه.
2- يبدو لي أن أردوغان الذي تنتهي فترته الرئاسية في عام 2028، لن يكون بمقدوره القدرة على تعديل الدستور التركي لمنحه فرصة جديدة في ظل التراجع المتواصل لشعبيته، ومن هنا بدأ يدرك ضرورات تطويع براغماتيته لعقيدته (وهو سلوك براغماتي في حد ذاته)، فالأمر ليس يقظة ضمير من أردوغان بمقدار ما هو استشعار بأن مستقبله ينطوي على احتمال يتزايد بإخراجه من حلبة السياسة التركية، وعليه فإن موقفه من إسرائيل بخاصة إذا أمعن نيتنياهو في غيّه قد يتطور نحو المزيد من الخطوات المعادية لإسرائيل، رغم أن السمة العامة له منذ تولي السلطة عام 2002 هي البراغماتية، وبالتالي -إذا افترضنا تعديل الدستور، رغم أنه افتراض ما زال ضعيفا- قد يحاول أردوغان أن يزيد من مظاهر «العقائدية السياسية» لاستعادة بعض ما خسره.
3- اعتقد أن انسحاب داود أوغلو من صف النخبة الحزبية الأردوغانية، وحدة الانتقادات التي وجهها أوغلو تحديدا لموقف أردوغان في معركة طوفان الأقصى جعلته يدرك أن هذا النقد يجد آذانا صاغية من نخبته الحزبية، لذا فلن يستطيع تجاوز ذلك إلا بالعودة لبرغماتية مغلفة بحمية دينية.
4- وجود حزب إسلامي (الرفاه التركي) والذي يقوده ابن أحد أبرز القيادات الإسلامية في الحياة الحزبية التركية المعاصرة (فاتح إربكان) شظى أنصار أردوغان، وما يدل على وزن النزعة الدينية بين الجمهور التركي الإسلامي أن هذا الحزب المتقدم كثيرا على أدبيات أردوغان تجاه إسرائيل حقق ما يقارب المضاعفة للأصوات التي حصل عليها في الانتخابات المحلية، وكان معظم نقده لأردوغان بأنه «لم يعزز القيم الإسلامية كما يجب ولم يناصر غزة بالقدر المطلوب»، وكان شعار هذا الحزب الإسلامي المنافس لأردوغان أن التصويت لأردوغان هو بمثابة إرسال ذخيرة لإسرائيل لمواصلة حرب الإبادة في غزة، وساهم ذلك في تزايد شعبية هذا الحزب، والتدليل على أن براغماتية أردوغان لم تصمد أمام عقيدة الجمهور.
5- أن الاعتراف بإسرائيل وعقد الاتفاقيات الاقتصادية والأمنية معها، مضافا له العضوية في الناتو الغربي المسيحي بل وتلهفه المخفي أحيانا والمعلن أحيانا أخرى لعضوية الاتحاد الأوروبي، والانغماس في المشاكل الداخلية العربية (بالعمل العسكري في كل من العراق وسوريا وليبيا) وبالتأرجح بين العداء والتودد لدول الخليج بل والتواجد العسكري في إحداها إسنادا لدولة خليجية (قطر) لمناهضة الرياض وأبو ظبي ومصر.. كل هذه الممارسات جعلت جمهوره الحزبي أكثر حيرة في فهم استراتيجيته العليا، وقد يكون محقا في «براغماتيته أحيانا كثيرة»، لكن جمهوره المشدود «للمطلق المثالي الديني» لن يترك فرصة إلا أن يحاسبه على ما يراه أقرب للانفصام، وهو ما يذكرنا بمثال مكيافيللي عن المرجعية القيمية في اتخاذ القرار.
6- وتعززت المظاهر السياسية والاجتماعية السابقة بتعثر المسار الاقتصادي في الفترات الأخيرة من عهد أردوغان، وهو ما جعل المعارضة تحقق نتائج كبيرة لم تحصل عليها منذ 1977، فقد بلغ التضخم الاقتصادي حدود 70%، والفوائد البنكية 50%، وتلكأ النمو الاقتصادي، واهتزت القيمة التحويلية للعملة التركية، ناهيك عن أن النظر الى سجل البطالة منذ 2002 يشير إلى أن هناك دورة من الصعود والهبوط في معدلات البطالة، وبلغ معدل الدورة حوالي 3 سنوات (3 هبوط تليها 3 صعود تقريبا)، لكن استخدام السلاسل الزمنية لتقييم الاتجاه العام يشير إلى صعود في معدلات البطالة ويقارب حاليا 11%.
لذا، على الطرف العربي بخاصة محور المقاومة أن يرحب وبقوة بخطوة أردوغان، وأن يستثمر الظرف الحالي لترطيب العلاقة بين أردوغان وجواره العربي، ولكن على الحركات الإسلامية العربية من زاوية مقابلة أن تخطط لمستقبل قريب (خمس سنوات وما بعدها) لمشهد تركي قد لا يكون أردوغان شاخصا فيه..
ربما.