الأحد سبتمبر 8, 2024
مقالات

د. وليد عبد الحي يكتب: غزة والمستقبل المباشر

يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتنياهو هو «عقدة» الحرب في قطاع غزة، ويبدو أنه يراهن على مجموعة من العوامل التي تظهر له على أنها العوامل التي ستخرجه من الحرب منتصرا، متجاهلا وبقدر من الاستهانة التي لم تألفها هيئات صنع القرار في إسرائيل كل العوامل التي لا تعمل لصالحه،

فما هي عوامل الرهان له أولا؟ أنها:

1- لقد تربى نيتنياهو في مجتمع «اعتاد النصر» على خصومه العرب، والنصر عند هذا المجتمع وبخاصة هيئات صنع القرار هو محصلة للمعركة العسكرية والسياسية، فقد انتصرت إسرائيل في عام 1948 و1956 و1967، وحققت في عام 1973 خروج أهم وأكبر دولة عربية من الصراع، وفتحت الباب أمام عرب آخرين للحاق بها، فالإنجاز العسكري المصري والسوري في عام 1973 انتهى إلى هزيمة عربية سياسية كاسحة، ثم تمكنت إسرائيل وحلفاؤها من خلق بيئة شرق أوسطية انتهت إلى تدمير العراق وإنهاك سوريا وصولا إلى نجدة دول عربية لإسرائيل عبر التجارة والتصدي للصواريخ المتجهة نحو الأرض المحتلة والتمسك بالتطبيع كما لو أنه أمر الهي حتى لو قتلت إسرائيل وجرحت أكثر من مائة ألف مدني واستباحت الأقصى طولا وعرضا ورفضت كل نداءات الإدانة والشجب.. هذه البيئة التي كرسها اتجاه تاريخي تجعل نيتنياهو على قناعة ان هذا الاتجاه سيواصل طريقه.

2- إدراك نيتنياهو أن القوى العربية الأكثر أهمية في مسيرة الصراع هي أكثر لهفة منه على تدمير المقاومة الفلسطينية بخاصة الإسلامية منها، كما أن كلا منها أصبح منشغلا بهمومه الداخلية، ويكفي أن تراقب البيئة الإقليمية الفرعية لأهم دولة عربية- أقصد مصر-، فهي دولة مطوقة بحزام ناري، فجنوبها السودان يحترق، وغربها ليبيا تقف ضمن أعلى 5 دول في العالم في عدم الاستقرار، وشرقها البحر الأحمر يشتعل ووصل الأمر إلى شبه شلل في قناة السويس تراجع معه دخل القناة بحوالي 45% مع بداية عام 2024، ثم هناك الحريق في شمال مصر في قطاع غزة، يضاف الى ذلك تداعيات سد النهضة الأثيوبي والاختناق الاقتصادي الداخلي بفعل الزيادة السكانية والقروض وتراجع قيمة العملة المصرية تراجعا متسارعا يصل إلى حد الانهيار.. وهو ما يجعل نيتنياهو مطمئنا إلى أن إيغاله في الدم الفلسطيني لن يقود لتغير في توجهات هذه الدولة التي يدرك نيتنياهو أن صورة زعيمها في الذهن الشعبي المصري غير مطمئنة، فقد تقود كل هذه الظروف إلى اضطراب اوسع، وهو ما يجعله حريص على استباق أية تغيرات وترتيب المشهد بما يناسب استراتيجيته لمنع أي خلل مستقبلي.

3- يعتقد نيتنياهو أن نظرية عصفور القفص الصينية (التي صاغها المفكر الصيني «تشين يوان» ««Chen Yun) تنطبق على العلاقات الامريكية الإسرائيلية، فمهما تباينت الاجتهادات والمصالح بين إسرائيل وأمريكا فانهما كعصفورين في قفص واحد مهما اتسع أو ضاق ذلك القفص، وبالتالي فان أي توتر في العلاقات بين الطرفين لن يصل إلى تحطيم القفص، وهو ما يعني أن واشنطن ستبقى إلى جانب إسرائيل في الحساب الاستراتيجي، بل هي الرافعة التي تساند إسرائيل في جر العرب إلى مزيد من التنازلات لصالح إسرائيل، فالتطبيع العربي الإسرائيلي والأمن الإسرائيلي يمثلان ركنين مركزيين ومترابطين في السياسة الأمريكية.

4- يعتقد نيتنياهو أن الضغط بكل قوة على المفاصل المدنية في قطاع غزة سيؤتي أكله في نهاية المطاف، وهو يرى أن قرارات المحاكم الدولية باطلة، بل يظن أن قرارات محكمة العدل والجنائية الدولية ستلغى كما تم إلغاء قرار الأمم المتحدة الصادر عام 1975 باعتبار الصهيونية أيديولوجية عنصرية ويجب التعامل معها من كل الدول على هذا الأساس، فبعد هذا القرار بسنتين فقط كان السادات ضيفا على الكنيسيت الإسرائيلي (1977)، وتوالت سياسات التطبيع تدريجيا، وبعد 16 عاما تم الغاء القرار من الامم المتحدة ذاتها (تحديدا عام 1991). لذا فإن نيتنياهو مقتنع تماما بأهمية استغلال نقطة ضعف المقاومة وهي الجانب المدني، ومن هنا يزيد ضغطه على المدنيين استنادا لقناعته أن الإدانات الدولية ستنتهي كما انتهى قرار اعتبار الصهيونية أيديولوجية عنصرية.

5- يعتقد نيتنياهو ان الخسائر الاقتصادية الإسرائيلية (شلل الاقتصاد في الشمال والجنوب، التهجير للمستوطنين، شلل التجارة البحرية في البحر الاحمر، هروب الاستثمارات وتناقص حضورها، الإنفاق العسكري.. الخ) أمور ستتم معالجتها بسرعة بعد الحرب من خلال المساعدات الأمريكية والأوروبية ثم بزيادة حجم التبادل التجاري مع دول التطبيع العربي ناهيك عن «هَبَّة» رأس المال اليهودي في العالم للمساعدة.

6- أما الصورة الدولية لإسرائيل فإن الرئيس الأمريكي يفصل بين صورة إسرائيل وبين سياسات نيتنياهو، أي أنه يرى أن صورة إسرائيل تضررت بفعل سلوك نيتنياهو فقط، وأن إسرائيل تستحق الدعم وضمان الأمن، فالمشكلة فردية وليست مجتمعية، ونيتنياهو لا يرى رد الفعل المجتمعي في العالم تجاه سياسة إسرائيل إلا من باب واحد وهو «معاداة السامية»، وهو ما يعتقد أنه سيهزمها.

7- لدى نيتنياهو قناعة أن «محور المقاومة» حتى وإن واصل ضغطه، فإن مركز الحلف -أي إيران- لن تنخرط في مواجهة مباشرة واسعة مع إسرائيل، وهو ما سيوفر جهدا يتم تركيزه على المقاومة في غزة.

8- يعتقد نيتنياهو أن المعركة بعد العسكرية ستكون هي الأهم وبخاصة معركة الاعمار التي سيتم فيها «ابتزاز مقيت» لربط وثيق جدا جدا بين كل دولار أو رغيف أو علاج أو مادة خام وبين شروط سياسية تضعها الدول المانحة، وهو ما سيعزز النصر العسكري الذي يروج له نيتنياهو.

مقابل كل ما سبق، فان نيتنياهو يواجه مأزقا من خلال:

أ‌- أن المسافة الفاصلة بين وعوده بالإنجاز وما تحقق منها متواضع الى درجة كبيرة، فلا المقاومة انهارت، ولا محور المقاومة تفكك، ولا استعاد أيا من رهائنه.

ب‌- أن مراقبة الإعلام الإسرائيلي وتقارير مراكز الدراسات الإسرائيلية وتصريحات المسؤولين العسكريين والمدنيين توحي أن الجبهة الداخلية في إسرائيل ليست مفككة بالقدر الكافي ولكنها «تائهة»، فدرجة التوافق بين القوى السياسية المختلفة لا تصل إلى 45% في معظم النقاط الهامة في المواجهة، وهو ما يجعل القرارات أقرب للمساومات من قرارات الاجماع التي تجعل القرار أكثر قوة.

ج- يبدو أن أغلب التقييمات العقلانية في إسرائيل ترى أن نيتنياهو يستهين بشكل كبير في صعوبات الموقف الداخلي والإقليمي والدولي، وأن نرجسيته المفرطة تجره نحو الإغراق في التفاؤل بنصر محتوم، لكن المؤشرات الواقعية لا تشير إلى ذلك المستوى الذي يروج له نيتنياهو، فنظرة نيتنياهو للتشظي الداخلي، وتزايد الوجع من ضربات المقاومة الإسلامية في لبنان، واستمرار الخلاف مع أمريكا في بعض الجوانب، والصورة المشوهة لإسرائيل، وقرارات المحاكم الدولية، وتزايد الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، والذكاء الذي تبدية المقاومة ومحورها في إدارة المعركة العسكرية.. كلها عوامل ينظر لها نيتنياهو بقدر من الاستخفاف الذي مصدره «نرجسيته» المفرطة، واعتماده على الاتجاه الأعظم في سجل المواجهات العسكرية بين العرب وإسرائيل والذي ينظر له نيتنياهو على أنه قانون أبدى.

النتيجة:

من الواضح أن نيتنياهو لن يتراجع عن الاستمرار في المواجهة، وسيزيد الضغط على المدنيين بشكل أقسى من المراحل السابقة، وسيحاول في خطابه القادم في مجلس الشيوخ الأمريكي أن يعزز الصورة المعتادة عن «قوة التحالف الأمريكي الإسرائيلي»، وعن إشارات تؤكد أن الأنظمة العربية تسانده ضمنيا، وأن الأمم المتحدة والمحاكم الدولية هي جهات لا بد من لجمها، ناهيك عن رسم صورة الشيطان لمحور المقاومة ومركزه الإيراني.

Please follow and like us:
د. وليد عبد الحي
أستاذ علوم سياسية، الأردن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب