قبل تحديد السلوك لمعرفة الاتجاه
لابد أن نحدد أمرين في غاية الأهمية
١- الفكرة المحركة او العقائد الحاكمة
كالعقائد الدينية والفكرية والسياسية والعسكرية وصولا للعقائد النووية والبيولوجية لمن يمتلكها.
٢- تحديد مركز ثقل كل طرف ونقاط ارتكازه
وقد تكلمت بالتفصيل عن النقطة الأولى في كتابي استراتيجيات الصراع العالمي
وخلاصته المركزة جدا كما يلي:
هناك ثلاث كتل عظيمة كلها تسعى لتشكيل قطب عالمي بطريقتها
أولها: الكتلة الشرقية
– وفيها الصين بعقيدة توسعية ماركسية بخصائص صينية من خلال الرؤية الاقتصادية (لحد الان) وهي تتعسكر بشكل متسارع
– وروسيا بعقيدة أوراسية تضم أوروبا او الجزء الشرقي منها إلى روسيا من خلال الحرب الأوكرانية
– وإيران بعقيدة فارسية متشيعة ذات خصائص توسعية في المحيط الإسلامي السني،
ورؤيتها ميراث ما تبقى من تفكيك المسألة الشرقية (الخلافة العثمانية)
مرتكزة على مجالات حيوية أربع منها ورقة الأقصى المقدسة عند السنة (وهي ليست مقدسة عند الشيعة)
وعقائد ورؤى هذه الكتلة يمكن من خلالها تحديد توجه و فهم سلوك كل طرف مهما اختلفت الأوضاع.
مثال تطبيقي على حماس ومسار ارتباطها بالسلوك الإيراني:
في الانتفاضة الأولى والثانية كان مركز ثقل وصناعة قرار المقاومة داخليا و كانت استجابة الأمة لها بشكل أسرع مما هي عليه الآن.
– بعد 2008 تم ربط المصالح الاستراتيجية للمقاومة مع المصالح الاستراتيجية لإيران
وهذا يعني تغير موقع مركز الثقل من غزة إلى إيران في غرفة مشتركة بين حماس وإيران وأذرعها مع وجود الاهيرة في أي غرفة عمليات ميدانية للمقاومة كما كان عليه الأمر في سيف القدس
-وبعد 2014 يعني بعد انهيار اتفاقية مينسك بين روسيا وأوروبا بتثبيت الصراع في أوكرانيا
تم تقارب استراتيجي إيراني روسي كبير أيضا
وهذا يعني تشكيل مركز ثقل جديد بين قوة كبرى روسيا وقوة إقليمية ايران
ولأن كل ثقل ضعيف يجذبه ثقل قوي
وجدت إيران نفسها منخرطة في حرب أوروبية جديدة
– ثم جاء دخول الصين بتشكيل مركز ثقل جديد (لا أدري أين مكانه لكنه موجود حتما)
في 2017 بعد اعلان أمريكا أن الصين تمثل تهديدا لقواعد النظام الدولي مبشرة بانتهاء عصر العولمة الذي أعلن في 2022 في وثيقة الأمن القومي الأمريكي
وهكذا وجدت المقاومة نفسها مرتبطة بمركز ثقل شرقي متعدد العقائد ومتنوع الرؤى المتناقضة لكنها تتفهم المصالح المشتركة
– وهنا مربط الفرس المصالح المشتركة والتي من بينها عدم السماح لأي قوة سنية بالظهور في الساحة واستفادتها من التنافس الدولي
وبذلك تكون المقاومة السنية في معادلة خطيرة للغاية
مركز ثقل قوي جدا يتحرك بعقائد معادية جدا
ومقاومة ضعيفة بمفهوم مقاربات القوة مرتبكة ارتباطا عاطفي كبير بالأمة، لكنها فاصلتها استراتيجيا حين ارتبطت مصالحها الاستراتيجية بمصالح قوى كبرى متناقضة
وهذا ما يفسر موقف الصين وروسيا المتفهمين وأيضا سلوك إيران بعدم الانخراط بالحرب والاكتفاء بالإسناد
لأن ما هو استراتيجي لحماس هو مجرد تكتيك عند إيران وباقي الكتلة الشرقية
ويمثل اغتيال هنية رحمه الله وتقبله
حالة الإصدام والارتطام الاستراتيجي
بمعنى أن حماس اصدم رأسها بكل عنف وهي تتجه إلى استراتيجيتها، بسقف التكتيك الإيراني المرتبط بمركز الثقل الصينو-روسي
فكان الارتطام إلى مركز الثقل الأول لحماس والمقاومة هو الداخل الفلسطيني بعمقه الاستراتيجي في الأمة الإسلامية
وأرجو أن اختيار السنوار كان ناتجا عن هذا الوعي وليس تكرار الارتطام عند السقوف الإيرانية والتزاماتها تجاه الكتلة الشرقية القديمة الجديدة.
الكتلة الثانية معرفة
وهي الكتلة الصهيوصليبية ويضم كل الأنجلوساكسون (من الامريكان والبريطانيين والاستراليين..)
ويضم أيضا الكيان الصهيوني ومعظم أوروبا
لكن التركيز ينبغي أن يكون على المتغيرات الجوهرية التي وقعت في هذه الكتلة الصهيو-أطلسية منذ الحرب العالمية الثانية إلى الآن
وهذ أيضا مبحث فصلته في كتابي الاستراتيجيات
والخلاصة المركزة ما يلي:
– أن مركز ثقل الكتلة كان في أوروبا تحت مظلة الناتو
-ثم صار ينتقل مركز الناتو تدريجبا إلى أمريكا مع محطات تمدده شرقا والذي كان ذلك من الأسباب المباشرة للحرب الاوكرانية حسب تصريح بوتين.
– ثم تم الانتقال الكامل لمركز الثقل من صيغة (أوربة الناتو) إلى صيغة (أمركة الناتو) وهذا يعني اخضاع أوروبا وإقصاءها من مركز الثقل وصنع القرار فيه
واللافت في هذا المستوى عسكرة ألمانيا من جديد نحو أوكرانيا بعد حضر ذلك ببنود الاستسلام بعد الحرب العالمية الثانية.
– وصولا إلى مرحلة التمدد شرقا للناتو بعسكرة اليابان وتمكينها من المظلة النووية الأمريكية وهذا أيضا كان ممنوعا ببنود استسلام اليابان بعد قنبلتي هيروشيما ونكازاكي
والآن استقر مركز الثقل الغربي في الكتلة الصهيو أنجلوساكسونية ذو كتلة المليار الذهبي (مليار بروتستنتي صهيوني حسب تصريحات بايدن).
مثال تطبيقي على فهم أثر تغير مراكز الثقل في الكتلة الغربية وأثرها في تحديد سلوك الكيان الصهيوني ورصد اتجاه.
١- بتفكك مركز ثقل الثنائية القطبية فقد الكيان امتيازات التوازن الدولي الذي كان في حقبة السوفييت وهذا يعني أيضا أنه تحرر أكثر من ثقل الروس في قراراته الاستراتيجية.
٢- ضعف أوروبا جعل الكيان يتحرر من الضغط الأوروبي بعد أمركة الناتو وعسكرة ألمانيا من جديد لما يملكه من نفوذ في الجهتين
٣- تهديد المركز الشرقي بزعامة الصين للقواعد الدولية القديمة وهذا يعني تهديد الإمبراطورية العالمية التي نسجتها الصهيونية منذ عقود
والرؤية الصينية رغم عداوتها للإسلام لكنها أيضا عقيدة شركية تعادي كل الأديان بما فيها اليهودية والصين لا تؤمن بعودة المسيح بنظرتها الصهيونية والبروتستانتية.
وبمجموع ما سبق من تغير مركز الثقل في الشرق وتغيره في الغرب، يجد الكيان نفسه في معارك وجودية
فوجوده الآن مرتبط أساسا بالتفوق الأمريكي
وبما أن الكل يرى التقهقر الأمريكي قياديا في كل مكان، لكنه لا يزال قادرا على شن الحروب في كل مكان
وهذه هي الصيغة الوحيدة المتوفرة عند الكيان للبقاء
من هنا نفهم لماذا كان الكيان يميل للنزاعات المحدودة والآن يأخذ قرارات الحرب الممدودة
ليس لأنه قوي لكنه الخيار الوحيد للبقاء على الأقل في حقبة التراجع الأمريكي
وهذا أيضا ما يجعلنا نتفهم أيضا قرار المقاومة بالتخندق داخليا
وأرجو مرة أخرى أن يكون ذلك مسارا لفك الارتباط مع مشاريع الكتل الشرقية والغربية على حد سواء
وألا يكون تنظيم عملية تسليم شاملة للمقاومة للمشروع الإيراني او الأجندة الشرقية او الغربية
وأنه على حماس والمقاومة بناء مركز ثقل جديد أساسه المقاومة وعمقه القطب الثالث الأمة الإسلامية.
الكتلة الثالثة هي الأمة الإسلامية الممتدة في كل أقطار الأرض
وهي (قطب غير نمطي) كما وصفه قائد الجيوش الفرنسية ومدير كلية العقائد العسكرية الجنرال Deportes
والنمط الذي يقصده عندما صرح (أن أمة الإسلام تتحرك بغياب مركز ثقل جامع لقواها المقاتلة
لكنها لازالت قادرة على تهديد كل الأقطاب التي تشكلت قديما والتي ستتشكل لاحقا)
وأريد أن أخلص من خلال تصريحه المثير أن المقاومة الفلسطينية اليوم وبفعل جهادها والاستقطاب الروحي لقضيتها تحرير الأقصى
قادرة على تشكيل مركز ثقل يستقطب كل القوى المقاتلة في الأمة
خصوصا وأن هذه القوى المقاتلة أثبتت جدارتها في الصمود أمام أعتى القوى و في أعنف الجبهات
فقد دحرت طالبان الناتو في أفغانستان
وصمدت المقاومة السورية أمام حرب عالمية
ولازالت الثورة الليبية عصية على التفكيك
وتعمل القوى العراقية واليمنية على لملمة صفوفها لجولات جديدة
وتنتظر شعوبا كثيرة الفرصة التي تنتقل بها إلى مراتب الجهاد والاستشهاد خاصة بعد طوفان الأقصى
فالخيار الاستراتيجي الآن للمقاومة هو العودة إلى هذا الحضن المتين الذي لا يسلمها ولا يساوم بها لأجل أجنداته العقدية او التوسعية
اليوم أكثر من أي وقت مضى يتوجب على المقاومة الفلسطينية فك الارتباط بالمشروع الإيراني
والذهاب لتشكيل مركز ثقل سني تنتظم حوله قوى الأمة الإسلامية القطي القادم.
ومن هنا يمكن استشراف اتجاه المقاومة
إما البقاء في براثن المشروع الإيراني كورقة تفاوضية للقوى الكبرى
وبالتالي مفاصلة أمة الإسلام في خياراتها الاستراتيجية
أو تكون رأسا في محور سني يكسر الهلال الإيراني ويجمع شتات القوى المقاتلة في الأمة استعدادا للنطحة الكبرى مع الروم.
والله ناصر دينه بمن يحب ويرضى
فاللهم استعملنا ولا تستبدلنا.