في رفوف المكتبات الكبرى يقف «صبح الأعشى في صناعة الإنشاء» للقلقشندي شامخًا في خمسة عشر مجلدًا، كأنه مدينة علمية عامرة، أبوابها مفتوحة للباحثين في التاريخ والجغرافيا والأدب والسياسة. وإذا كان عنوانه يوحي بأنه مجرد دليل في «فن الكتابة الديوانية»، فإن الواقع يكشف عن موسوعة حضارية لا غنى عنها لفهم بنية الدولة الإسلامية في العصور الوسطى.
المؤلف ومقامه
وضع هذا السفر العلامة أحمد بن علي القلقشندي (756–821هـ/1355–1418م)، الكاتب في ديوان الإنشاء بالقاهرة زمن الدولة المملوكية. ولم يكن القلقشندي مجرد ناسخ للرسائل، بل كان أديبًا موسوعيًا، جمع بين الفقه واللغة والتاريخ والجغرافيا، فجاء كتابه جامعًا لفنون شتى. يقول في مقدمته:
«هذا كتاب جمعت فيه ما يحتاج إليه كاتب الإنشاء من معرفة أصوله، وبيان فصوله، وإيضاح فنونه، مع ذكر أخبار الملوك وأحوال الدول، وما يتعلّق بالسياسة ومناهج الملك».
صناعة الإنشاء: وظيفة القلم والدولة
يرى القلقشندي أن الكاتب في ديوان الإنشاء حارس لهيبة الدولة ببلاغته كما يحرسها الجندي بسيفه، فيقول:
«الكتابة أحد جناحي الملك، والآخر السيف، ولا قيام للملك إلا بهما».
ويضع شروطًا صارمة للكاتب، منها العلم بالفقه واللغة والتاريخ والجغرافيا، بل وحتى معرفة أحوال الأمم الأخرى، لأن المراسلات قد توجه إلى الملوك في أطراف المعمورة.
ثراء الموسوعة ومحتوياتها
على الرغم من أن الكتاب موضوعه «فن الإنشاء»، إلا أن القلقشندي بسط القول في ميادين شتى:
في اللغة والبلاغة: أفرد فصولًا عن البيان والبديع، وضرب أمثلة من القرآن والحديث والشعر العربي. قال مثلًا:
«أفصح الكلام كلام الله تعالى، وأبلغه ما ورد عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم ما جاء عن فصحاء العرب من خطبهم وأشعارهم».
في التاريخ: عرض لأخبار الدول السابقة، من الخلفاء الراشدين إلى الدول العباسية والفاطمية والمملوكية، وذكر أيضًا ملوك الروم والفرنج والتتر.
في الجغرافيا: قدّم أوصافًا دقيقة للمدن والبلدان والطرق والبريد. قال في وصف القاهرة:
«هي حاضرة ديار مصر، وقطب رحى ممالك الإسلام، بها يجتمع التجار من كل فج، وتلتقي فيها قوافل البر والبحر».
في السياسة والإدارة: تحدث عن الدواوين والنظم السلطانية، وأورد نماذج للعهود والمواثيق. ومن قوله:
«الملك والدولة إنما يقومان على قاعدة العدل، فإذا زال العدل زالت أركان الملك».
صورة العالم في «صبح الأعشى»
من يقرأ الكتاب يخرج بصورة بانورامية للعالم في القرن الثامن الهجري:
يصف بلاد المغرب والأندلس وملوكها.
يتحدث عن الهند والصين وطرائق تجارتها.
يصف أوربا والفرنج ويذكر البابوية.
يسجل أحوال التتر والمغول.
وكأنه يرسم خريطة عالمية بعيون عربية إسلامية، مما يجعل الكتاب مصدرًا لا غنى عنه في تاريخ العلاقات الدولية.
البعد الإسلامي والشرعي
مع أن الكتاب إداري، فإن القلقشندي ربط كل فنون الكتابة بروح الإسلام. فيقول:
«ينبغي للكاتب أن يزين رسائله بآي الذكر الحكيم، ويستشهد بأحاديث سيد المرسلين، فإنها زينة الكلام، وأحرى بالقبول عند الخاص والعام».
كما شدد على أن الكتابة الديوانية ينبغي ألا تتعارض مع أحكام الشريعة، وأن العهود يجب أن تُصاغ بما لا يُخل بالشرع.
القيمة الأدبية واللغوية
من الوجهة الأدبية، يُعَد «صبح الأعشى» خزانةً لفنون البيان، فقد حفظ لنا نماذج من رسائل ابن العميد والصابي والهمذاني وغيرهم، بل ونصوصًا جاهلية وإسلامية تُعَدّ من عيون النثر العربي. قال عن غاية الكاتب:
«ينبغي أن يضع الكاتب لفظه حيث ينبغي، ويزن عبارته بميزان العقل، فإن لكل مقام مقالًا، ولكل خطاب لسانًا».
الأثر الحضاري والسياسي
تتجلى قيمة الكتاب في أنه وثيقة سياسية تكشف كيف نظرت الدولة المملوكية إلى العالم، وكيف أدارت مراسلاتها ومعاهداتها. وهو مصدر أساسي لفهم بنية الدولة الإسلامية: دواوينها، بريدها، جبايتها، جندها، ومراسلاتها.
ولذلك اعتمد عليه مؤرخون كبار مثل المقريزي والسيوطي، ثم انتقل أثره إلى المستشرقين الغربيين الذين جعلوه أحد أهم مصادر دراسة التاريخ الإسلامي الوسيط.
موقعه بين الموسوعات الكبرى
إذا كان «معجم البلدان» لياقوت الحموي موسوعة جغرافية، و**«نهاية الأرب»** للنويري موسوعة أدبية تاريخية، فإن «صبح الأعشى» جمع بين البعدين: الأدب والسياسة، فصار مرجعًا فريدًا لا نظير له.
صبح الأعشى
«صبح الأعشى» ليس مجرد كتاب في «فن المكاتبات»، بل هو مرآة حضارة بأكملها. فيه تسمع صرير الأقلام في دواوين القاهرة، وتشهد حركة القوافل بين الشرق والغرب، وتتعرف على خطاب السلاطين إلى ملوك الأرض. هو موسوعة عاش بها القلقشندي زمنه، وتركها أمانة للأجيال، لتبقى شاهدًا على أن القلم، في الحضارة الإسلامية، كان دائمًا شريك السيف في بناء الدولة وحماية السيادة.