في ظلِّ التضاريس الوعرة لجبال بامير، حيث تلتقي الثلوج الدائمة بالوديان الخصبة، تكمن مفارقة طاجيكستان الاقتصادية: بلدٌ يمتلك ثروة مائية هائلة وإمكانات تعدينية واعدة، لكنه يظلُّ واحدًا من أكثر الاقتصادات هشاشة في آسيا الوسطى. يعاني هذا الاقتصاد الناشئ من إرثٍ ثقيل من التبعية للتحويلات المالية وارتفاع معدلات الدين الخارجي، بينما تحاول النخبة الحاكمة إدارة معادلة صعبة بين الحفاظ على الاستقرار السياسي وجذب الاستثمارات الأجنبية.
الوضع الاقتصادي الراهن: مؤشرات رئيسية وتحديات هيكلية
يُقدَّر الناتج المحلي الإجمالي لطاجيكستان بحوالي 10 مليارات دولار لعام 2025، وفقًا لتقديرات البنك الدولي، ما يجعلها تحتل المرتبة السادسة بين دول آسيا الوسطى من حيث الحجم الاقتصادي. ويعتمد هذا الناتج بشكلٍ كبير على قطاع الزراعة الذي يساهم بنحو 20%، وقطاع الخدمات بنسبة 45%، بينما لا يتجاوز نصيب الصناعة 15%، مما يعكس اختلالاً هيكليًّا في بنية الاقتصاد.
أما الدين العام، فيشكل تحدِّيًا مركزيًّا، حيث بلغ 50% من الناتج المحلي، تتوزعه ديون ثنائية مع الصين (35%)، وروسيا (20%)، ومؤسسات مالية دولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (45%). وتأتي هذه الديون في سياق مشاريع بنية تحتية كبرى، مثل سد «روغون» الكهرومائي، الذي تموله الصين بنحو 1.9 مليار دولار، بهدف تحويل طاجيكستان إلى مصدِّر للطاقة في المنطقة.
على صعيد المالية العامة، تعاني الحكومة من عجزٍ مزمن في الموازنة يقدر بـ 4% من الناتج المحلي، مدفوعًا بإنفاقٍ اجتماعي مرتفع لدعم السلع الأساسية (كالخبز والوقود)، وارتفاع تكاليف خدمة الديون التي تستهلك 25% من الإيرادات السنوية.
القطاع الخاص: محركٌ معطَّل وفرصٌ غير مستغلة
رغم التحولات الجزئية نحو اقتصاد السوق منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، لا يزال القطاع العام يهيمن على 50% من النشاط الاقتصادي، بينما يواجه القطاع الخاص عقباتٍ بنيوية تعوق نموه. فطاجيكستان تحتل المرتبة 147 عالميًا في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال، وفقًا لتقارير البنك الدولي، بسبب البيروقراطية المعقدة، وانتشار الفساد (حيث تفقد الشركات 25% من أرباحها السنوية لدفع رشاوى)، وضعف البنية التحتية المالية. لكنَّ الفرص الاستثمارية لا تزال موجودة، خاصة في:
الطاقة الكهرومائية:
تمتلك طاجيكستان إمكاناتٍ لتوليد 500 مليار كيلوواط/ساعة سنويًّا، لم يُستغل منها سوى 5% حتى الآن.
التعدين:
تحتل المرتبة الثانية عالميًا في احتياطيات الفضة، وتضم مناجم ذهب غير مُستكشفة بالكامل، مثل منجم «جيروافت» الذي تبلغ قيمته التقديرية 3 مليارات دولار.
السياحة البيئية:
تشهد المناطق الجبلية مثل «فانج» و«خوروبول» إقبالًا متزايدًا من السياح الأوروبيين، لكنها تفتقر إلى البنية التحتية الفندقية والطرق المؤهلة.
التجارة الخارجية: فجوةٌ تزداد عمقًا
تعاني طاجيكستان من عجزٍ مزمن في الميزان التجاري، حيث تبلغ وارداتها 4 مليارات دولار مقابل صادرات لا تتجاوز 1.5 مليار دولار. وتُهيمن سلعتان رئيسيتان على الصادرات: الألومنيوم (40%)، والقطن (25%)، بينما تعتمد الواردات على النفط (30%)، والآلات (20%)، والسلع الاستهلاكية (25%).
وتكشف هذه الهيكلية عن اختلالاتٍ خطيرة التبعية لأسعار السلع العالمية مما يؤدي أي انخفاض في أسعار الألومنيوم أو القطن إلى أزمات في ميزان المدفوعات.
و الاعتماد شبه الكلي على روسيا في تحويلات المغتربين*: يشكل العاملون في روسيا (1.5 مليون طاجيكي) مصدرًا لـ 30% من الناتج المحلي عبر تحويلات تصل إلى 3 مليارات دولار سنويًّا.
العلاقات مع المؤسسات الدولية: بين شروط الإصلاح وضغوط الديون
تُعد طاجيكستان من أكبر متلقي القروض الميسرة من البنك الدولي، حيث حصلت على 1.2 مليار دولار خلال العقد الأخير لتمويل مشاريع في الصحة والتعليم والبنية التحتية. لكن هذه القروض تأتي بشروطٍ مرتبطة بسياسات تقشفية، مثل خفض الدعم الحكومي وزيادة الضرائب غير المباشرة، مما يزيد الأعباء على الطبقات الفقيرة.
أما الصين، فتعتمد استثماراتها على مبدأ «الموارد مقابل البنية التحتية»، حيث تمول مشاريع كبرى (مثل طريق «دوشنبه-طشقند» السريع) مقابل حصولها على امتيازات في قطاع التعدين. وقد أصبحت بكين الدائن الأول لطاجيكستان، حيث تمثل ديونها 60% من إجمالي الديون الثنائية.
الفرص الاستثمارية: قطاعات واعدة ومخاطر محتملة
الطاقة المتجددة :
-مشروع سد «روغون» (تبلغ تكلفته 3.9 مليارات دولار) سيكون الأكبر في آسيا الوسطى عند اكتماله عام 2030، وسيولد 3600 ميجاوات، مما قد يحقق عوائدَ سنوية تصل إلى 800 مليون دولار من التصدير. وفرص الاستثمار في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في المناطق الجنوبية، التي تتمتع بأكثر من 300 يوم مشمس سنويًّا.
المناطق الاقتصادية الحرة:
منطقة «سوجد» الحرة في الشمال توفر إعفاءات ضريبية لمدة 10 سنوات، لكنها لم تجذب سوى 15 شركة أجنبية حتى الآن، بسبب القيود اللوجستية.
الزراعة المُصنَّعة:
إمكانية تصدير الفواكه المجففة (المشمش، العنب) إلى الأسواق الخليجية، مع عوائد قد تصل إلى 200 مليون دولار سنويًّا حال تطوير سلاسل التبريد والتعبئة.
التحديات الجيوسياسية: صراعات المياه وتأثيرات الجوار
تؤثر التوترات الإقليمية، خاصة مع أوزبكستان، على الاقتصاد الطاجيكي. فالنزاع حول تقاسم مياه نهر «سير داريا» يعيق التعاون في مشاريع الري، بينما تتنافس الدولتان على جذب الاستثمارات في قطاع التعدين. من ناحية أخرى، تتعزز العلاقات مع الصين عبر مبادرة «الحزام والطريق»، التي قد توفر ممرًّا تجاريًّا حيويًّا إذا تم تطوير شبكة سكك حديدية تربط طاجيكستان بميناء جوادر الباكستاني.
نصائح للتحرير الاقتصادي: نحو نموذج مستدام
إصلاح النظام المصرفي:
خصخصة البنوك الحكومية لتعزيز الكفاءة، وإدخال أدوات مالية إسلامية لجذب استثمارات من دول الخليج.
تحفيز القطاع الخاص:
تبسيط إجراءات الترخيص، وإطلاق صندوق ضمان ائتماني لدعم الشركات الصغيرة بميزانية أولية 500 مليون دولار.
تنويع مصادر الدخل:
الاستثمار في السياحة الثقافية (التراث الساماني) والطبية (ينابيع المياه المعدنية في «جيزار»).
إدارة الدين الخارجي:
إعادة التفاوض على شروط القروض الصينية، والتحول نحو قروض تنموية منخفضة الفائدة من الاتحاد الأوروبي.
طاجيكستان بين مطرقة الديون وسندان الطموح
رغم التحديات، لا تزال طاجيكستان تحمل بذور نموٍّ قد تحولها إلى مركزٍ إقليمي للطاقة والسياحة، إذا ما نجحت في إصلاح بيئة الأعمال، وتخفيف القبضة الأمنية على الاقتصاد، وتوظيف موقعها الجيواستراتيجي كجسر بين الصين وأسواق الشرق الأوسط. لكن الطريق لن يكون سهلاً: فجبل الديون يحتاج إلى معاول الإصلاح، ووديان الفرص تحتاج إلى استثماراتٍ جريئة. السؤال الأكبر يبقى: هل تمتلك النخبة الحاكمة الإرادة السياسية لتحرير الاقتصاد من ربقة الماضي، أم ستظل طاجيكستان أسيرةً لتنين الديون وأوهام الاستقرار .