مثّلت حالة الاندفاع الصهيونية للانتقام من الغزّيين وارتكاب مئات المجازر في حقهم، حالة الصدمة والخلل داخل الجيش الإسرائيلي والمجتمع اليهودي ككل، وأن هناك تفكُّكًا أصابهم في لحظة غابت فيها منظومة السيطرة والقيادة..
وقد كشفت الحرب البرية الخدعة الكبرى أو الأسطورة -التي ساهمت الأنظمة العربية المستبدة في صناعتها كي تصوّغ لنفسها حالة العجز والاستسلام وعدم القدرة على المواجهة والتحدي- كشفت الحرب هذه الخدعة التي تقوم على فكرة (الجيش الذي لا يُقهر)؛ ذلك لأنه لم يكن هناك قتال حقيقي من قبل بين جيوشنا وهذا الجيش المغرور..
أما اليوم فقد أثبت «القسّاميون» أنه يمكن لَجْمُ هذا الجيش، وكسر غطرسته، وإجباره على الانصياع لمطالبهم، وأنه يمكن فك القيود عن الشعب الفلسطيني المحاصر، وما خلا ذلك فسوف يدفع الثمن باهظًا من عتاده وجنوده..
لقد أدركت المقاومة نقاط ضعف العدو، وهو ما لم تدركه عروشُنا وجيوشُنا، وسددتْ له الضربات في الوقت المناسب، وأعدت العدة بما يليق به، واعتمدت على نفسها في الجهوزية والتسليح، وتمكنت بعد ذلك من شلّ قدراته الدفاعية، وإفشال خططه الاستباقية، في معركة طويلة النفس غير مسبوقة، أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة الإقليمية والدولية، وأكسبتها ملايين المتعاطفين حول العالم، وعرّت هذا الكيان النازي الذي لم يتورع عن تدمير المدارس والجامعات والمساجد والكنائس والمستشفيات واستهداف الطواقم الطبية ورجال الإسعاف.
أثبتت معارك «طوفان الأقصى» إذًا جبن وخوار جنود المحتلّ؛ تصديقًا لما ورد عنهم في الكتاب والسنة، وأنهم يختبئون خلف الأسلحة والمتاريس كأنها جُدرٌ أو قرًى محصّنةٌ، وأنه لا يحارب وجهًا لوجه، ولا صبر له على أجواء المعارك والالتحام، فكان خرقُ الخطوط الأمنية الإسرائيلية يوم السابع من أكتوبر، بناء على فهمٍ واعٍ لتلك النفسية الجبانة، وكانت المبادرة الملهمة تطبيقًا لما قال الرجلان الصالحان من أتباع موسى عليه السلام: (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ)..
لقد اخترق الأبطالُ الجدار، وقلعوا السياج، ودخلوا المواقع والمستوطنات؛ ليشكلوا إذلالًا تاريخيًّا للعنجهية الصهيونية، وجرحًا غائرًا لذاتيتهم المتضخمة بوهم المبادأة والقدرة الباطشة والحسم، وإذ لم تحتمل النرجسية الصهيونية هذا الإذلال والقهر من مجتمع غزة الذي تحاصره منذ سبعة عشر عامًا وتدخل إليه ما يبقيه فقط على قيد الحياة -فإنها انطلقت لتثأر ثأرًا مضاعفًا، ولتحقيق نصر سريع أمام هذه النكبةِ العظمى.. وحتى في خطتها هذه لم تحدد معالم هذا النصر، فغدت تتخبط وتحصد فى كل يوم خسارة جديدة وعظيمة في الآليات والأفراد إلى حد الإنهاك.
خصمٌ جديدٌ يواجهه الصهاينةُ من غير جيوش العرب النظامية، هذا الخصم رجاله لا يهابون الموت، ولا يعرفون اليأس، ولا يخشون أحدًا إلا الله، وهم بين خيارين لا ثالث لهما: إما النصرُ أو الشهادة، من أجل ذلك يستصغرون جيوش الكفر ويستهينون بقوى المحتلّ، ويصوغون النصر بإعداد ما استطاعوا من قوة وبحسن التوكل على الله، فلا أحقر في نظرهم ولا أصغر من الصهاينة..
وإذا كان من أبناء جلدتنا من انهزموا أمامهم فلأنهم لم يفهموا لغته، ولم يدركوا هدفه، ولم يستوعبوا نفسيته، فكأي جيشٍ نظاميٍّ طور المقاومون أنفسهم وبشكل متسارع وملحوظ، وصنّعوا الأسلحة وحسّنوا مداها، وامتلكوا ترسانات الصواريخ والمسيّرات والأسلحة البحرية، وقد أسس ذلك لمرحلة جديدة في الصراع فيما يشبه «توازن الرعب»، وقد سطّروا -ولا يزالون- ملحمة تاريخية مملوءة بالعزّ والفخار في فضاء عربي وإسلامي مشبّع بالذلِّ والخنوع، وحكام ترسّخت في نفوسهم أكذوبة (الجيش الذى لا يُقهر)، والتي ملأتهم جبنًا ورعبًا، وبدلًا من مواجهة المحتلّ الغاصب، تآمروا على شعوبهم، واستنزفوا خيرات بلادهم، واستخدموا الجيوش الجرارة في قمع تلك الشعوب التي أكلها الفقر والمرض.