تبددتْ كلُّ الأوهام يوم السبت السابع من أكتوبر عام ألفين وثلاثة وعشرين، فيما عُرف بـ«عملية طوفان الأقصى» التي قامت بها كتائبُ «القسّام» وحطّمت خلالها عنجهية الكيان الصهيوني، وهدمت كل ما قيل حول إستراتيجياته وقدراته في الردع العسكري، بل أفقدت «إسرائيل» هيبتها المزيفة، وداست على معنويات جيشها الذي اعتقد لثلاثة أرباع قرن أنه لا يُقهر..
لقد استطاع الأبطال بأسلحتهم التقليدية وقلوبهم الفتية اختراق الدفاعات المحصّنة والحواجز الإلكترونية، وفتح الثغرات اللازمة لدخول العمق الإسرائيلي لمسافة تزيد على ثلاثين كيلومترًا، ومهاجمة معسكراته ومستوطناته، وتكبيده خسائر فادحة في العتاد، غير مئات القتلى والأسرى وآلاف الجرحى، وهو ما صدم العدوّ وأبطل عقيدته الدفاعية ونظرياته القتالية، وأثبت هشاشة نظامه الأمني وفشل جهازه الاستخباراتي ذي الشهرة العالمية، بل وُضع الكيان برمّته في ورطه تاريخية ربما كانت بداية نهايته.
وعلى أثر هذه الضربة الموجعة التي أتت على هيبة هذا الجيش وصورته النمطية، وعجزه -بكل ما يملك- عن التصدي لها، أفرغ العدوُّ حقده الموروث في قتل أطفال ونساء غـزّة، وهدم البيوت على رءوس ساكنيها؛ محاولًا ترميم انكساره وهزيمته بمحاولة تحقيق نصر وهمى أمام شعبه الذي شُلّت حياته والتزم الملاجئ، وقد رأى العالم بالصوت والصورة والنقل المباشر ما ألقى على القطاع من مقذوفات ومتفجرات وقنابل زلزالية وفسفور أبيض، ما يربو على ما ألقى على «هيروشيما» اليابانية بأربعة أضعاف..
لقد اقتلعت آلتهم الحربية الأشجار والبنايات وحصدت آلاف الأرواح البريئة جلّهم من الأطفال والنساء، وحرموا ما يزيد على مليوني مدني من الطعام والشراب والدواء والكهرباء والوقود وكل سُبل الحياة، في أكبر سجن مفتوح على مستوى العالم؛ ليتأكد للجميع أن العدو فقد صوابه، وأنه يهرب للأمام في محاولة يائسة للانتصار تكلّفه كل يوم المزيد والمزيد من الآليات والجنود، تلك الخسارة التي تزيد وتيرتها يومًا بعد يوم، بل قد تقوده إلى الإنهاك التام، ما لم تتدخل أمريكا لوقف الحرب وانتشاله من مستنقع المقاومة.
بدا جيش اليهود هشًّا هزيلًا لا قيمة لإمكاناته الضخمة أمام ضربات المقاومة بأسلحتها المتواضعة محلية الصنع، ولولا قوة الطيران التي يستخدمها لتغطية جبنه لانحسمت المعركة من أيامها الأولى لصالح المقاومين بعدما تتحول إلى قتال رجلٍ لرجل.. لقد صارت آليات العدو صيدًا سهلًا لرجال القسّام الذين أجهزوا على المئات منها وإحراقها بمن فيها، وإذا كانت قدرات «إسرائيل»، العسكرية والاستخباراتية، مصنّفة على أنها الأقوى في الشرق الأوسط وواحدة من الأفضل فى العالم، فإن هذا التصنيف صار شيئًا من الماضي..
وإنّ ما صُرف على الأغراض الدفاعية لعقود ويقدّر بأربعة وعشرين مليار دولار في العام الواحد ذهب هباء منثورًا، بعدما عجزت هذه الدفاعات والطاقات التسليحية والآلاف من جنود «النخبة» عن تخليص مستوطنات ومعسكرات «غلاف غزة» من أيدي «القسّام» يوم السابع من أكتوبر إلا بعد اثنتين وسبعين ساعة من القتال الضاري واستخدام أحدث ما لديهم من أسلحة وتقنيات وبعد أن تكبّدوا خسائر بشرية ومادية هائلة.. لقد اهتزّت معنويات الجيش الإسرائيلي وتزعزعت ثقته بنفسه أمام رجال العقيدة الذين يحاربون لأجل مبدأ، كما انكشفت حقيقته، وأنه لا وجود لإرادة قتال لدى الجندي الصهيوني، ولِمَ لا وهو أحرص الناس على حياةٍ، وفى حين يريد أن ينجو من الموت يسعى خصمه المقاوم إلى الموت سعيًا.
السبب الرئيس في أن «إسرائيل» تبدو قوية، قادرة على فرض سطوتها على مَنْ حولها في منطقة حاشدة بالتقلبات، هو أمريكا والغرب، الذين غرسوها كَشَوْكةٍ وأداةٍ لتفرقة العرب وتحقيق مصالحها، فغدا هذا الكيان ربيب القوى الكبرى، متطفلًا عليها، لا يمكنه التنفّس إلا عن طريقها، وهو من الضعف والوهن ما جعله يؤخِّر عملية الغزو البري حتى استكملت أمريكا ترتيباتها في المنطقة، وأرسلت البوارج وحاملات الطائرات، وأمدّت جيشها بالقنابل المدمّرة والصواريخ الفاتكة، وكررت إعلانها تأييد الكيان مهما بلغت التكلفة..
بل صارت أمريكا لسان حال «إسرائيل»، تستخدم حق «الفيتو» في مجلس الأمن للاستمرار في قتل المدنيين وذبح الأطفال وتحويل القطاع إلى ركام، في سابقة غير أخلاقية ندرت في التاريخ المعاصر، ولو رفعت أمريكا يدها عن «إسرائيل» لحقبة قصيرة لكتبت بذلك نهايتها، لكنها لا زالت تغذّى جيشها بالسلاح والتدريب والتمويل، ولا زالت تخضع لها حكام دول الطوْق وأمراء وملوك ورؤساء العرب والمسلمين؛ ليبقى الصهاينةُ مستعلين على الجميع، وقد كان الرئيس الأمريكي «بايدن» غاية في الوضوح في هذه المساندة حين قال في الجمعية العامة للأمم المتحدة: (لا بد أنكم سمعتموني أقول عدة مرات: أنه لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان علينا اختراع واحدة).