عامر شماخ يكتب: «لا تَشْتَهِ ما لغيرِك»
هذه حكمةٌ هنديةٌ، قرأتُها ضمن تراث «طاغور»، شاعر الهند الكبير، أتت فى سياق الدعوة إلى الزهد والحفاظ على إنسانية البشر، وهو ما اشتُهر به أتباع الديانات وكثير من عظماء ومشاهير هذه البلاد الشرقية.
كما وجدتُ لها نظائر في الإنجيل، من ذلك: (لا تشته بيت قريبك، لا تشته امرأة قريبك، ولا عبده ولا أمته، ولا ثوره ولا حماره، ولا شيئًا مما لقريبك)، وربما المقصود بالقريب هنا: كل من قرُب منك كالرحم والجار الجُنب والزميل والصاحب بالجنب إلخ.
وقد عُدتُ إلى تراثنا فوجدته حاشدًا بمثل هذه الوصايا والحِكم، التي تجعل من المسلم نسيج وحده، متفردًا في أخلاقه وصفاته عن سائر أبناء الأمم والأجناس الأخرى. فالقناعة في الإسلام خُلقٌ أصيل، والمسلم بغيرها يتخبط في دنياه ويصير كالذي يشرب ماء البحر فيزداد عطشًا، وربما هلك جرّاء ذلك.
فالناظرُ إلى ما في أيدي الناس يجهل أو يتجاهل فعل الله في العطاء والمنع، وأنه هو أغنى وأقنى لحكمة؛ (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا…) [الزخرف: 32]، فيظل متسخِّطًا كئيبًا يقتله الصراع الداخلي وتمزقه الأفكار الطائشة، وقد يموت مدحورًا مقهورًا لم يتحقق له شيء مما تمنّى.
ولو راقبت بعضًا من هؤلاء الخلق الساخطين على أقدار الله، المتشوِّفين إلى ما في أيدي غيرهم لوجدتهم على صفات واحدة، ولأنكرتهم أشد النكران، فهو لا يشعر بنعم الله عليه، ولا يشبع، وحديثه الدائم عن الدنيا ومتعها ينسيك -إن جالسته- ذكر الله، وهو ثرثار كثير الضجيج وسقطِ الكلام، وبعضهم قد يرتكب الحماقات بل الجرائم لتحصيل ما تطلَّع إليه والذي لم يأته بالطرق المشروعة. ولذا فهم أقل الناس احتفاظًا بالصداقات وأكثرهم مللًا ونفاد صبر وقلة حيلة.
في كتاب الله (تعالى) دواء لهذا الداء، وحِكمٌ عظيمة كفيلة ببناء مجتمع سليم قائم على الخُلق والفضيلة، وضمان تربية فرد راضٍ سوىّ ذي قلب خالٍ من الغل والضغينة، فهنا يكون المسلم واثقًا مما عند الله، راضيًا بقسمته، متحليًا بالهدوء والسكينة كأثر للقناعة، مكتسبًا حبَّ من حوله، يتكلم بشموخ ويسير باعتزاز ولو قلَّ ماله وتدنى جاهه.
لما خرج قارون على قومه في زينته قال بعضهم: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص: 79]، ثم رأوا ما فعل الله به، ولعذاب الآخرة أشد وأخزى، وهذا يؤكد أن العطاء -كما المنع- قد يكون بلاء لصاحبه؛ (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35].
فإذا تشوّفت النفس إلى ما لدى الآخرين فيكون الرد هو السعي والكدّ لا أن نتمنى على الله الأماني ونحن قعود متواكلون، ثم نسأل الله من فضله؛ (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ…) [النساء: 32]، وهو (سبحانه) أعلم بما يصلحك؛ فإن من الناس ناسًا لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغناهم الله لفسدوا، وإن من الناس ناسًا لا يصلحهم إلا الغنى، ولو أفقرهم الله لفسدوا..
(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى: 27]؛ هذا ما يجب أن يعيه كلُّ مسلم، فالله بصير بعباده، يرفع بعضهم ويخفض آخرين، ويولى بعضهم على بعض، ويُسَخِّر بعضهم لخدمة البعض؛ (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف: 32].
والرفع والخفض لحكمة يعلمها (سبحانه) ولا نعلمها، فما للمخدوم ميزة على الخادم، ولا نقيصة في خَلْقِ الخادم جعلته في درجة أدنى من مخدومه، بل هو أمر الله وقضاؤه فينا، وكلٌّ ميسرٌ لما خُلق له، ولا بد من التسليم والرضا به؛ (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [النحل: 71].
ينهى القرآن الكريم عن هذا التطلع المرزول؛ (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ…) [النساء: 32]، وعن اشتهاء ما للآخرين؛ لما يولِّد من الحسد وغواية النفس وتمردها؛ (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 131]، (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ…) [النساء: 54].
وسنة النبي ﷺ حافلة أيضًا بالوصايا والإرشادات لعلاج هذه الحالة من التردي النفسي، فيضع ﷺ قواعد وشروطًا حال التطلُّع إلى الآخرين؛ ليظل المسلم على هيئته التي أرادها الله (تعالى) له من القناعة والغنى النفسي والخُلق الحسن، يقول ﷺ «انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم»..
ويقول ﷺ: «قد أفلح من أسلم ورُزق كفافًا، وقنّعه الله بما آتاه»، وإذا جاز تمنّى ما في يد الآخرين فيكون ذلك في أمرين لا ثالث لهما: «لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالًا فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهي يقضى بها ويعلِّمها».