الخميس مايو 16, 2024
مقالات

د. وليد عبد الحي يكتب: الجامعات الأمريكية والموقف من حرب غزة

من الملاحظ أن الجامعات الغربية بدءا من الولايات المتحدة إلى أوروبا هي الأكثر وضوحا في التفاعل مع ما يجري في قطاع غزة، ومن غير الممكن مقارنة الحراك الواسع في الجامعات الغربية وبين الحراك في جامعات العالم الأخرى، فلا الجامعات العربية ولا الإسلامية ولا الروسية أو الصينية أو الهندية أو الإفريقية أو الأمريكية اللاتينية تجاري في حراكها الحراك في الجامعات الغربية..

والأرجح أن ثقافة الحرية المجتمعية (لا ثقافة الحرية المؤسسية الرسمية)، تلعب دورا في هذه المجتمعات، فكيف ستجري مظاهرات مثلا في الجامعات السعودية، وهي الدولة الأقل عالميا في التظاهر بأشكاله المختلفة؟ ففاقد الشيء لا يعطيه، ومن غير الممكن ان تسمح جامعات «المضارب والجند» بحرية التعبير إلا إذا كانت لاحتفالات المديح والثناء.

لقد وصفت فوكس نيوز المظاهرات في عشرات الجامعات الأمريكية المشهورة والمتميزة بشكل خاص والجامعات الغربية بشكل عام بأنها المظاهرات الأكبر خلال هذا القرن..

فما هي محركات ذلك؟

أولا:  من المتعذر النظر في حراك الجامعات الأمريكية بعيدا عن  حركة المجتمع ومظاهراته، إذ بلغ عدد المظاهرات المساندة لفلسطين في الولايات المتحدة حتى الآن ما مجموعه (2200) مظاهرة (ألفان ومئتا مظاهرة)، أي بمعدل حوالي 10 مظاهرات يوميا، وحيث إن الجامعات جزء من نسيج المجتمع، فإن انتقال الحمى للجسد الأكاديمي أمر طبيعي، ولعل هيئات المجتمع المدني بخاصة الأكاديمية منها كانت وراء تهيئة البيئة لانتقال هذه الحمى، فالدعوات لمقاطعة الجامعات الإسرائيلية انتشرت بقدر ما في أوساط الجامعات الغربية بشكل عام والأمريكية بشكل خاص (وهو ما تدل عليه تقارير BDS  المنتظمة)، وقد بدأت هذه الحملات منذ أكثر من عقد كامل، ولعل رابطة الدراسات الآسيوية الأمريكية Association for Asian American Studies كانت الهيئة الأبرز في هذا الجانب منذ إعلانها المقاطعة للجامعات الإسرائيلية  عام 2013، ثم تبعها في نفس المرحلة تقريبا رابطة الدراسات الأمريكية (American Studies Association ) وفي عام 2016 صوت أعضاء الرابطة الأنثروبولوجية الأمريكية (American (Anthropological Association لصالح تأييد فرض مقاطعة أكاديمية لإسرائيل بنسبة 71%.

ثانيا: لم يعط الإعلام الاهتمام المطلوب لبدايات هذه المظاهرات التي ترافقت تقريبا مع طوفان الأقصى مباشرة، فبعد تسعة أيام من طوفان الأقصى اشتعل النقاش في الجامعات الأمريكية، ونشرت البي بي سي البريطانية تقريرا عنوانه «الاضطراب في الجامعات الامريكية» في 16 أكتوبر، أي أن ما يجري حاليا هو تنامي لظاهرة بدأت منذ 7 شهور.

ثالثا: الخطاب السياسي الإسرائيلي المفارق للحد الأدنى من مقومات الخطاب السياسي الناجح، فقد شكلت تصريحات المسئولين الإسرائيليين صدمة تردد صداها في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية وفي أغلب هيئات حقوق الإنسان بمن فيها الهيئات الأمريكية، فتصريحات نيتنياهو وبن غفير وسموتريتش وغالانت ..الخ  عن  الدعوة إلى ضرب غزة بالقنابل النووية، واعتبار أهل غزة بأنهم  حيوانات بشرية، والتأكيد على منع الماء والكهرباء والطعام والدواء عن السكان المدنيين، شكلت لغة تجاوزت كل أشكال العنصرية والتحريض المُعتل، وهو الأمر الذي أجبر الرئيس بايدن على إدانته بل وطالب بإخراج المتطرفين من الحكومة الإسرائيلية.

رابعا: انهيار كامل للاستبداد الإعلامي، فقد فقدت وسائل الإعلام التقليدية التي تجذر النفوذ الصهيوني في بنيتها مكانتها بسبب ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبح انتقال الصورة الحقيقية يتم عبر الأفراد العاديين والإعلاميين، ولم يعد هناك إمكانية للتلاعب بالعقول كما اعتاد الإعلام الصهيوني، بل إن عبارة «معاداة السامية» التي يتشبث بها نيتنياهو لوصف الحراك في الجامعات الأمريكية لم تعد تجد القدر السابق من الآذان الصاغية، ويكفي التنبه لما قال المرشح الرئاسي الديمقراطي السابق سوندز وسخريته من «حجة معاداة السامية» وهو  نفس مضمون ما قاله ميرشايمر أبرز الأكاديميين الأمريكيين  في حقل العلوم السياسة.. وغيرهم الكثير.

خامسا: التمادي في الانحياز الأمريكي بالمساعدات المفرطة لإسرائيل وأوكرانيا وتايوان، تدرك الجامعات (أساتذة وطلابا) أن معدل الفروق الطبقية (Gini Index) تتصاعد في الولايات المتحدة منذ 2020، وفي الوقت الذي تتزايد هذه الظاهرة لتصل بالولايات المتحدة لتكون هي الأسوأ بين كل الدول الصناعية الكبرى، يجري الإعلان عن مساعدات سخية لإسرائيل وأوكرانيا وتايوان، ووصلت الدفعة الأخيرة قبل أسبوع إلى حوالي 95 مليار دولار، وهو ما جعل المجتمع الأمريكي يربط بين الظاهرتين، فاستشاط غضبا، وهو ما تؤكده استطلاعات الرأي التي أشارت إلى أن 36% يؤيد زيادة الدعم بينما يعارضه 34% (أي انشطار واضح في الموقف المجتمعي الأمريكي).

سادسا: شكلت تقارير الهيئات الدولية المحايدة عن العنف في قطاع غزة ضد الأطفال والنساء والعزل من المدنيين صورة مستفزة للضمير الإنساني، ولما كان المجتمع الجامعي هو الأكثر اطلاعا على مثل هذه التقارير، فقد شكل ذلك محركا واضحا، فتقرير أوكسفام (OXFAM) على سبيل المثال لا الحصر، يشير إلى أن معدل القتل اليومي في غزة هو أعلى معدل في الحروب منذ الحرب العالمية الثانية، كما أن تدمير الجامعات ومقتل الآلاف من الطلاب والاساتذة  والموظفين في هذه الجامعات والمدارس رسم الصورة البشعة للسلوك الإسرائيلي، وازدادت الصورة بشاعة  بعد تداول الأخبار والصور عن  تدمير المستشفيات ومراكز الرعاية وتجمعات استلام المساعدات التي يرسلها المجتمع الدولي بما فيها الأمريكية، وكل ذلك شكل صورة اجرامية غير مألوفة من ناحية لكن الاعلام الاسرائيلي يحاول تحويلها الى «دفاع عن النفس» دون جدوى من ناحية أخرى. وإن وجود هيئات المجتمع المدني (الاتحادات الطلابية والنقابية والاحزاب …الخ) عزز الثقة بكل التقارير، ففي الاسبوع الاول من فبراير 2024 دعت الرابطة الامريكية لأساتذة الجامعات (American Association of University Professors) الى وقف القتال، فرد نيتنياهو على النداء بانه يستعد لاجتياح رفح وتهجير سكانها بعد تهجير سكان الشمال في القطاع.

 

سابعا: إن تخفيض سن الناخب الأمريكي في عام 1972 من 21 إلى 18 عاما، أعطى فئة طلاب الجامعات وزنا أكبر لأنه أضاف لكتلتهم الانتخابية قوة تصل إلى ما يعادل زيادة تصل إلى 3.5% من الناخبين، وهو ما جعل رغبة الأحزاب في استمالتهم تتزايد، لكن المعروف في الدراسات الأمريكية أن الشريحة الاكثر مناهضة لإسرائيل هي شريحة الشباب الذي يشكل طلاب الجامعات الجسد الرئيسي لها. ولعل مساندة هذه الشريحة لحركة (BDS) ونقل دعواتها إلى داخل الجامعات هو ما دفع 30 ولاية أمريكية للنص في قوانينها على معاقبة الشركات التي تستجيب لدعوات BDS لمقاطعة إسرائيل. بينما بقية الولايات لم تستجب لهذه الدعوة.

ثامنا: السوابق التاريخية الطلابية الأمريكية مع الحروب غير الإنسانية، إذ يتماثل ما يجري حاليا في ساحات الجامعات الامريكية مع ما وقع ضد الحرب الفيتنامية في الستينات، وما وقع ضد التمييز العنصري في جنوب افريقيا في ثمانينات القرن الماضي وغيرها، ومن الملاحظ أن جامعة كولومبيا من الجامعات الرائدة في هذه الحركات، وهي الآن احدى مراكز الحراك المتقدمة تماما.

 

تاسعا: إذا استثنينا شريحة الواسب (WASP) (أي البيض الانجلوساكسون البروتستنت) فإن المجتمع الأمريكي هو مجتمع الأقليات على غرار المجتمعات الاستيطانية، فهو مجتمع متنوع بشكل كبير (حسب اللون، القومية، الدين) وهناك نسبة  ذات وزن كمي هام من هذه الأقليات التي تعود لدول العالم الثالث، وهي أقليات أكثر ميلا للتعاطف مع قضايا مجتمعات العالم الثالث، وينتشر هؤلاء في الجامعات، فإذا علمنا أن مجموع الآىسيويين والأفارقة والأمريكيين اللاتينيين  يشكلون حوالي 110 مليون نسمة، فإن هؤلاء يحملون هموم العالم الثالث أكثر من غيرهم لا سيما أنهم يشعرون بمعنى العنصرية والتمييز على أسس اجتماعية، وهو ما يجعلهم أكثر ميلا -نسبيا- من غيرهم للتعاطف مع المظلومين على غرار غزة، وهو ما يفسر ظهورهم بشكل ملفت في مظاهرات الجامعات.

إن المشكلة لدى القيادة الإسرائيلية الحالية أنها ما تزال تنظر لتعقيدات الحياة الدولية عبر «الاسطورة التاريخية، وعبر وهم التميز القومي الممنوح من القوى الميتافيزيقية، وعبر الشعور بالتفوق استنادا لنظرة دونية للآخرين، ثم ترويج الاكاذيب التي كان يصعب التحقق منها بينما اصبحت الآن تحت الشمس»..

إن رد الفعل الأمريكي الرسمي على هذه المظاهرات قد يؤجج الأمر كما حدث في الستينات من القرن الماضي، وتركها لتتفاعل أمر لا تراه إسرائيل أمرا إيجابيا، ولعل تعليقات نيتنياهو حول هذه المظاهرات مؤشر على ضيق الصدر الشديد جدا..

إن دماء سكان غزة -ولو بالألم الكبير- لم تذهب هدرا، إنها تنجز تغييرا هادئا في صورة آخر دول الاستعمار الاستيطاني.. ولكن لا بد من الوعي لكيفية تطوير ذلك وبوعي كبير..

ربما

Please follow and like us:
د. وليد عبد الحي
أستاذ علوم سياسية، الأردن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب