في كتابه (المائة: ترتيب أكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ) والذي ترجمه الراحل أنيس منصور بعنوان (العظماء مائة.. أعظمهم محمد) ونشره المكتب المصري الحديث عقب صدوره عام 1978م –أكد اليهودي (مايكل هارت) أن اختياره النبي صلى الله عليه وسلم، ليكون هو الأول في قائمة رجال التاريخ (ربما أدهش كثيرًا من القراء إلى حد قد يثير بعض التساؤلات، ولكن في اعتقادي أن محمدًا كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين؛ الديني والدنيوي. لقد أسس ونشر أحد أعظم الأديان في العالم، وأصبح أحد الزعماء العالميين السياسيين العظام؛ ففي هذه الأيام وبعد مرور ثلاثة عشر قرنًا تقريبًا على وفاته لا يزال تأثيره قويًّا عارمًا).
وربما لا يعرف (هارت) الكثير عن منجزات نبينا -صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك وضعه على رأس الأنبياء والرسل والمصلحين، متقدمًا أيضًا على من أخذوا بيد البشرية إلى الحضارة المادية مثل أديسون وماركوني وباستير والأخوان رايت وغيرهم.
ولو علم عُشر ما أنجز النبي صلى الله عليه وسلم، مما أُودع في كتاب الله تعالى وفي سنته وسيرته لكان له شأن آخر مع هذا الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-.
إن بعثة محمد –صلى الله عليه وسلم- كانت بعثًا للإنسانية من جديد، وإعادة الآدمي إلى أصله وفطرته التي فطره الله عليها، بعدما تكالبت عليه الشياطين فأوردته موارد الشرك والخطيئة فصار والحيوان سواء، دون النظر إلى فلسفة وجوده والهدف من خلقه.
فأما رسالة الإسلام؛ فقد جاءت لإحياء العقول التي أماتتها الخرافة، وحررت الإنسان من أغلال الجهل والضلال، وكانت النور الذي أخرج الناس من الظلمات، والثورة التي حررتهم من ربق العبودية لغير الله، وها هو الإنسان الضائع التائه يرتبط بالسماء، ويعلو بنظره وتفكيره حتى يحطم الأوهام التي كان عليها، ويزيل الغشاوة التي أعمته، ويفك القيود التي ربطته بوحل الدنيا ومتاعها التافه.
وإن أعظم المنجزات التي أسداها النبي صلى الله عليه وسلم للبشرية هي دعوته إلى التوحيد؛ توحيد الربويية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الله في أسمائه وصفاته، وهذا ما استغرق عمر الدعوة (13عامًا في مكة)..
وكان لا بد أن يحدث هذا وقد وقعت البعثة على فترة من الرسل، وقد غاص العالم في الغواية والضلال؛ ما يستلزم صلابة الأساس، ومتانة الأركان فأزال بهذا العمل ما كان من زيغ وانحراف، واستكمل به الشرع، وأكمل الدين؛ ما مهد لـ (عالمية الرسالة).. ليعلن بعدها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) [الأعراف: 158].
إنه حدث استثنائي، وشخصية ليس لها مثيل في البشر؛ جاء بمعجزة خالدة: القرآن، يهدى للتي هي أقوم، تبيانًا لكل شيء، فيه خبر من تقدم ونبأ من تأخر، وهو القول الفصل، دعت أول آياته إلى العلم (اقرأ)، وفضّل الذين يعلمون على الذين لا يعلمون، وبين دفتيه منهج رباني متوازن لحياة ترعى طبيعة الإنسان، وتنهض به إلى مراقي الطهر والكمال.
إن محمدًا صلى الله عليه وسلم، هو أول من حرر العبيد، وألغى الطبقية؛ (سلمانُ منا آل البيت)، ولم يحطم أصنام قومه في جوف الكعبة فحسب، بل حطمها في نفوس أهل الجزيرة قاطبة، ثم جاء رجاله من بعده ليحطموها في نفوس الفرس والروم وبقايا الإغريق ممن عبدوا البشر واتخذوا الملوك والأمراء آلهة تُعبد من دون الله؛ فكانت بعثته فتحًا ونصرًا وهداية للناس أجمعين، وفي ثناياها تحريم للظلم والخديعة، والجبرية والاستبداد، وفيها الاستمساك بإقامة العدل، ومنع الجور والمحسوبية، وتعرية محرِّفي الأديان المتكسبين بآيات الله.
ولقد فتح الطريق أمام وحدة العالم، وأرسى قواعد الأممية العادلة، القائمة على قواعد التعاون على البر والتقوى. وفي القرآن، دستور السماء، آيات حاضَّة على هذا المشروع (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13]، ولا زالت الفرصة قائمة لو تخلى الحكام عن تلك العصبية المقيتة وساووا بين مواطنيهم والآخرين، ونهجوا نهج الإسلام في حرمة الأموال والأنفس والأعراض، وسعوا إلى تكوين مجتمعات متراحمة، متكافلة، حريصة على الأخوة الإنسانية حرصها على الحياة الآمنة والعيش الرغيد.
إن قوانين الحرب التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم، وسار عليها سلفه من بعده لهي كفيلة بوقف أنهار الدماء التي سالت -ولا تزال- حول العالم، وإن الأخلاق التي ورَّثها لأتباعه عند التعامل مع خصومهم لو التزم الجميع بها وجعلوها مواثيق دولية ما شقي واحد من مليارات البشرية، وما سُفك دمٌ بغير حق، ولو آمن الناس كلهم بمحمد -وهو سيحدث لا ريب- لعمَّ السلام الكون، ولأشرق فجر الإسلام مبددًا غشاوات الدنيا وظلماتها.
وربما اندهش (مايكل هارت) لو علم أن ذلك النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي دعا إلى الروحانية وعبادة الخالق، لم يكن على وتيرة الأنبياء السابقين في قصرهم الدعوة على الدين ومكارم الأخلاق، بل تخطى ذلك إلى وضع مذهب اقتصادي فريد يمنع الاحتكار والغش، ويقي من التفاوت الطبقي، ويجعل للفقراء حقًّا في أموال الأغنياء يدفعونه عن طيب نفس، ويحرض على العمل والاحتراف والإتقان والجودة، ويدعو إلى إحياء الأرض الموات حتى تكون أيدي أتباعه هي العليا..
صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله.