الثقافة السودانية هي جزء من مجموعة الثقافات العربية، فنتيجة لعوامل الجغرافية الطبيعية يتوزع السكان العرب على مناطق جغرافية لكل منها خصائصها وطبيعتها التي تختلف عن المناطق الأخرى مما ينعكس على ساكنيها من ناحية الخصائص الجسمانية والعادات والتقاليد والوجدان المشترك، وبالنظر الى ذلك يمكننا ان نقسم الثقافات العربية الى عدة مجموعات ثقافية عربية رئيسية، أولها مجموعة الجزيرة العربية وتشمل (دول الجزيرة العربية مضافا اليها العراق)، ثم مجموعة دول الشام وتشمل دول (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين)، ثم مجموعة دول المغرب العربي وتشمل (ليبيا، تونس، الجزائر والمغرب)، ثم نجد (الثقافة المصرية) كثقافة مستقلة قائمة بذاتها، ثم (الثقافة السودانية) كذلك ثقافة مستقلة وقائمة بذاتها. وكل مجموعة من هذه المجموعات توجد بداخلها مجموعات ثقافية أخرى تختلف في ثقافتها عن المجموعة الكبيرة ولكنها ترتبط معها برباط الجغرافيا وحدود الدولة التي يعيشون بها، والمجموعة الثقافية الواحدة تتفق في المزاج العام والعادات وأسلوب المعاملات الرئيسية، والتي تشمل طريقة السلام والتحية واستقبال الاخر والترحيب به، الملابس الشائعة وطريقة لبسها وتصميمها، الطعام وطريقة اعداده وتناوله، العادات الاجتماعية وطريقة التعبير عنها مثل الزواج وتلقى العزاء واستقبال الاهل والغرباء والترحيب بهم، طريقة بناء المساكن وتصميمها، تشابه اللهجات المحلية وغير ذلك من السمات التي تحدد طبيعة كل ثقافة وتكوينها، واهم سمة من سمات المجموعة الثقافية هي إحساس الناس بالتقارب وأنهم غير مختلفين عن بعضهم البعض.
تعاني جميع المجموعات الثقافية العربية انفة الذكر باستثناء مجموعة الجزيرة العربية من صراع وهمي مصطنع حول الهوية بغرض تشكيك الشعوب العربية المسلمة في نفسها وفي عروبتها ومن ثم صنع حالة نفسية من (اللا انتماء) أو (اللا هوية)، ففي مصر نجد الصراع حول هوية المصريين، هل المصريين عرب أم فراعنة؟ وهو صراع رائج بشدة لدرجة انك تجد كتابا ومفكرين أصحاب نفوذ وشهرة يتبنون مثل هذا الطرح، ونقلت الاخبار في وقت سابق حديث وزير الآثار المصري الأسبق في محاضرة له (نحن نتكلم اللغة العربية لكننا لسنا عربا)، حيث كان مجمل حديثه يتلخص حول (أن الطبيعة الفرعونية للمصريين لم تتغير على الرغم من الغزوات التي تعرضت لها مصر على مر العصور)، وفي المغرب العربي كذلك نجد نفس الصراع هل هم عرب أم امازيغ؟، وفي سوريا كذلك تجد نفس الجدال هل السوريين عرب أم سريان؟،وفي السودان بخبث تم الترويج لفرية الجنس المختلط بين (العرب والأفارقة-يقصدون الزنوج)، والرابط المشترك بين كل هذه الصراعات هو اظهار العرب بمظهر الغزاة المعتدين حيث أنهم جميعا يتحدثون عن تداخل وتزاوج وانصهار بين العرب والسكان الأصليين كأنما العرب كانوا بلا نساء وأتوا للبحث عن النساء للزواج بهن، وكل هذه الصراعات صراعات وهمية مصطنعة لا هدف لها الا أن تحارب الشعوب العربية نفسها بنفسها بناء على وجود انتماء وهمي اخر، فهذه الشعوب هي شعوب عربية أصيلة من قبل أن يظهر الاسلام، وحتى لو سلمنا جدلا بانها لم تكن شعوبا عربية فهذه الشعوب حاليا لغتها الأم هي اللغة العربية فهي بذلك تصبح شعوبا عربية، وذلك أن العرب على قسمان عاربة ومستعربة، العرب المستعربة وهم الذين لم يكونوا أصلا من العرب ولكنهم صاروا عربا بأن صارت لغتهم الام هي اللغة العربية، وأكثر العرب اليوم هم عرب مستعربة، بل حتى قريش نفسها والقرشيين هم سادة العرب هم عرب مستعربة من ذرية إسماعيل عليه السلام، وبذلك ندرك ان هذا الصراع الذي يدور باسم الهوية ويتبناه بعض الناس من ذوي الهوى الأغراض ويتم الترويج له تحت ستار التجهيل المتعمد ومن أجل استنهاض القوميات والنزعات الجاهلية الضيقة من اجل تحقيق أغراضهم الدنيئة بفصل الأمة عن جذورها وعن بعضها البعض. أما مسألة وجود لغات غير اللغة العربية في بعض البلدان فهذا أمر طبيعي فاللغة هي عبارة عن أصوات يعبر بها كل شخص ضمن مجتمعه عن حاجاته ورغباته وبسبب عزلة أي مجموعة بشرية عن الاخرين تتحور اصواتها مع مرور الزمن لتصبح لغة جديدة، والاصوات التي يمكن ان ينتجها البشر لا نهائية العدد ولذلك فيمكن للبشر أن ينتجوا عددا لا محدودا من اللغات المختلفة بما يزيد عن عدد بصمات أصابع البشر المختلفة، ولكن دائما ما يتخلى الناس عن لغاتهم الصغيرة لصالح اللغات الأكثر انتشارا طالما انها تمنحهم مقدارا أكبر من التواصل مع بشر اخرين في او حول محيطهم الجغرافي او في اطارهم المهني وسبل بحثهم عن الرزق.
لكل ثقافة منطقة أساس ومنطقة نفوذ أو تأثير وعند الحديث عن الثقافة السودانية المقصود بها جغرافيا ثقافة المنطقة التي تشمل ولايات شمال السودان وشرقه ووسطه الى حدود جنوب السودان وأجزاء واسعة من كردفان وجزء من دارفور، وتتميز ثقافة هذه المنطقة برحمة الناس بعضهم ببعض وتوقعهم للخير من الاخر، ويمتد تأثير هذه الثقافة غربا الى بقية دارفور ودول من غرب أفريقيا، ويمتد تأثيرها شمالا الى جنوب مصر، وشرقا الى ارتريا وأجزاء من اثيوبيا، وجنوبا الى دولة جنوب السودان، وتتوسع وجدانيا في مناطق واسعة جدا في افريقيا، وبالرغم من اتساع مناطق تأثير هذه الثقافة جغرافيا داخل السودان وخارجه الا انها تنتشر في مناطق لها ثقافات مختلفة مستقلة ولها مزاجها الخاص بالرغم من اعتبارها امتدادا للثقافة السودانية، ونتيجة لوجود هذه الاختلافات الثقافية في السودان كانت تنشأ الحروب داخل البلد وذلك على نحو ما حدث في جنوب السودان سابقا وفي دارفور والمناطق الأخرى لاحقا، والاختلافات الثقافية موجودة في أي بلد واسع المساحة وان اختلفت اشكالها ولكن دائما ما يعمل عليها الأعداء لإثارة الفتن ولاستعداء طرف على اخر ولإشعال الحروب وتدمير الدول وتخريب المجتمعات والاختلاف داخل البلد الواحد يحتاج الى إدارة لتفادي اثاره السالبة وأول خطوة في إدارة الاختلاف هي الاعتراف به. وعودة للثقافة السودانية نجد أن الثقافة السودانية ثقافة شاملة تغطي جميع جوانب الحياة وأن لها طابعها العربي المميز ابتداء من اللباس العربي للرجال الذي يتمثل في الجلابية والعمامة العربية السودانية والسراويل الواسعة (الجلابية في السعودية تسمى ثوب وفي عمان دشداشة وفي مصر جلابية وفي بقية دول الخليج كندوره وفي المغرب جلابة)، وتلبس المرأة الثوب السوداني وينطق اسمه بحرف التاء باللهجة الدارجة فيقال (توب) وهو لباس عربي قديم أشبه بالرداء الذي يلبسه المسلمون في الحج والعمرة مع الازار (لبس الحج الازار والرداء) ويختلف عن الرداء في الطول اذ يكون طوله نحو أربعة أمتار ونصف وعرضه نحو متر ونصف، وتلف به المرأة جسمها من رأسها وحتى اسفل قدميها ويكون لباسا شرعيا ساترا بحسب سمك قماشه وعرضه وطبيعته وطريقة لفه وذلك تماما مثل العباءة النسائية يمكن ان تكون ساترة وشرعية ويمكن أن تكون مجرد ثوب زينة. أما طريقة السلام والتحية في الثقافة السودانية فتكون بالمصافحة باليد والربت على الكتف والأخذ بالأحضان في حالة السلام بحرارة وكل ذلك بدون تقبيل على الخدين، ومن ثوابت الثقافة السودانية التكافل والانفاق بالمساهمة المالية من الاهل والأصدقاء في حالة المرض والوفاة والافراح ونوائب الدهر بشكل عام، وفي حالة الوفيات أو الزواج يكون بيت العزاء او الفرح عبارة عن ملتقى لجميع الاهل اذ قبل الفرح بأيام ويجلسون في بيت العزاء لأيام كذلك ويعرف فيه الكبار الصغار باهلهم واقاربهم الذين يأتون من المناطق البعيدة ويلتقى الاهل بعضهم ببعض فيتألفون ويتراحمون، وفي الثقافة السودانية يكون الرجل او الشاب في القرية او المنطقة هو حامي العرض وهو المؤتمن على عرض جيرانه وأهله فكل نساء الحي أخواته او امهاته، ويتم فصل الرجال عن النساء في كافة المناسبات الاجتماعية وفقا للثقافة الإسلامية وحتى في تصميم البيوت السودانية تصمم على ان يكون للرجال مكانهم المنفصل عن النساء (الديوان)، ويتم تجهيز البيوت بحيث تستقبل الضيوف في أي ساعة من الليل او النهار دون أن يتأثر بهم اهل البيت حتى لو امتدت فترة بقائهم لأيام وليال فالضيف دائما مرحب به ومن لحظة دخوله يبادر أهل الدار بتقديم الماء له ومن ثم تقديم الطعام ان كان الوقت وقت طعام دون ان يسألوه ان كان قد تناول طعامه ام لا وخاصة اذا جاء من مكان بعيد ويذبحون للضيف أو الضيوف الذبائح بما يتناسب ومقتضى الحال. في الثقافة السودانية يستخدم دقيق الذرة لعمل (الكِسرة) والكِسرة معروفة بنفس الاسم في دول المغرب العربي حيث يستخدم الصاج لخبزها وفي بعض الدول تسمى بالخبز الخفيف، ومن دقيق الذرة أيضا تصنع العصيدة وهي تختلف عن العصيدة في بقية الدول العربية بإضافة القليل من العجين المخمر للدقيق والماء، ومن دقيق القمح تصنع (القُراصة) بضم الميم وتكون على شكل أقراص دائرية ولذلك أخذت اسم قُرَاصة وهى نوع من أنواع الخبز، وجميعها تؤكل مع (المُلاّح) أو بدونه والمُلاّح هو (الإدام أو الحساء) ومُلاّح من الملح وسمي بذلك لأنه يملح به. وفي رمضان يصنع مشروب الحلومُر ويصنع من دقيق الذرة الذي يخمر مع إضافة البهارات اليه ثم يطبخ مثل الكسرة ويجفف ومن ثم ينعق في الماء حين اعداده للشرب وهو شبيه بالبيبسي في لونه والا حد ما في طعمه وبالرغم من ان اسمه يتكون من كلمتين (حلو) و (مُر) الا انه مشروب حلو لذيذ غنى بالفوائد الغذائية وليس مُرأ. وللسودانيين اشعارهم التقليدية التي تدعوا الي كريم الاخلاق وجميل الصفات وهي المشهورة بالدوبيت وهو من أدأب العرب القديمة وكان قد اشتهر به عمر الخيام (يعده ابن خلدون من شعر العامة في بغداد) وذلك بالإضافة للأشعار العادية ومختلف الفنون. ولهم صناعاتهم مثل صناعات السلال من سعف النخيل (القُفة) وصناعة البروش والبرش سجاد مصنوع من سعف النخيل، ونجد كذلك صناعة المراكب (القوارب الصغيرة) للصيد، والصناعات الفخارية لحفظ الماء وتبريده، والصناعات الجلدية لحفظ الماء ونقله كذلك وصناعة الأحذية والسكاكين والفؤوس والأدوات الزراعية. وفي مجال التعليم قبل المدارس الحديثة كانت تنتشر مدارس تحفيظ القران الكريم وتعليم القراءة والكتابة وغالبا ما تكون بنظام السكن الداخلي فيختلى بها التلاميذ للحفظ لذلك سميت بالخلوة وجمعها خلاوي، وينتشر علماء الإسلام في النواحي المختلفة من السودان يعلمون الناس ولهم مكانتهم واحترامهم، وللكبير في الثقافة السودانية مكانته واحترامه كذلك سواء أن كان أخا او عما او خالا او قريبا فهو صاحب الكلمة والمقدم في المجالس. والحقيقة ان الثقافة العربية السودانية ثقافة واسعة أكبر من أن نحيط بها في هذه المقالة ولكن نشير الى أن أقرب الثقافات اليها هي ثقافة الجزيرة العربية بينما تأثرت في كثير من جوانبها بالثقافة المصرية.
بالرغم من هذا الغنى الواسع والتفرد الثقافي المتميز الا ان الثقافة السودانية ظلت ثقافة غامضة مجهولة لدي بقية العرب في الثقافات العربية الأخرى، بل ظل السودان نفسه مجهولا لدرجة أن الكثير من اخواننا العرب يظنون ان الأسود والنمور تمرح وتسرح في شوارع الخرطوم، والحقيقة أنهم لا يلامون في ذلك ويعزى السبب في ذلك لكون الثقافة السودانية ثقافة وحيدة تعتمد على دولة واحدة فقط هي الدولة السودانية للتعبير عنها وذلك بخلاف ثقافة الجزيرة العربية أو الشام أو المغرب العربي التي تتوزع على عدة دول ان ضعفت دولة فستعبر عنها دولة أخرى، بينما نلاحظ ان الثقافة المصرية بالرغم من كونها ثقافة وحيدة قائمة بذاتها الا ان قوة الاعلام في الدولة المصرية جعلها تفرض نفسها بقوة وذلك بكثرة انتاجها الإعلامي فيستطيع المصري اليوم أن يذهب الى أي دولة عربية ويتكلم بلغته الدارجة فيفهمه الاخرون بكل سهولة، فواقع الحال أن الثقافة السودانية عانت في الإعلان عن نفسها من ضعف الدولة السودانية منذ الاستقلال فحتى الإنتاج الإعلامي من ناحية الدراما في غالبه ومع ضعفه من ناحية التصوير والاخراج لم يكن يعبر عن الثقافة السودانية بل كثيرا ما كان محاكاة لحياة الأجانب، والتلفزيون القومي نفسه ظل في توهان شديد وبلا رسالة ثقافية فقد كان في أغلب احواله مجرد جهاز للتسلية ونقل الأخبار، فالثقافة السودانية ليست هي أغاني المغنين الذين يلبسون البدلة والكرافتة ويحتفي بهم التلفزيون ليل نهار، وحقيقة الامر أننا كثيرا ما نجد أن السياسات الحكومية تحاربها بما تسنه من نظم ولوائح مثال ذلك اللباس القومي نجد أنه ليس هو اللباس الرسمي في مؤسسات التعليم والمؤسسات والوزارات الحكومية مما جعله في حالة انحسار مستمر، اضف الى ذلك الأثر السالب للمعارضين السياسيين الذين تقوم معارضتهم على النقد التخريبي لكل شئي وإشاعة روح القلق والسخط بين الشعب مما أسهم في وجود اضطراب ثقافي كبير.
في وقت سابق كتبت مقالة عن الثقافة السودانية كان المعنى والهدف منها الإشارة الى أن الثقافات متغيرة ويطرأ عليها الكثير من التغيير بحسب الظروف والمتغيرات سلبا او إيجابا وأن الثقافة الوحيدة المسجلة والمدونة بكل تفاصيلها هي الثقافة الإسلامية أما ما عدا ذلك فهو متغير، وهذه حقيقة فالثقافة السودانية نفسها قد حدث فيها الكثير من التغيير وتغيرت الكثير من الثوابت، ويحدث ذلك في جميع الثقافات العربية وغير العربية، فالثقافة المصرية اليوم ليست هي الثقافة المصرية قبل محمد على باشا وليست هي الثقافة المصرية قبل هدى شعراوي، ولكنها تظل ثقافة مصرية في الاطار الجغرافي العام بما له من خصوصية وسمات، واليوم في ظل الحرب في السودان تدخل الثقافة السودانية في منعطف جديد لها بقيام الحرب في مركز الثقافة السودانية، وفي ظل وجود فصيل يرفع راية الاستئصال والتغيير الجهوي العنيف، وعليه وبحسب المالات فستحمل الفترة القادمة الكثير من التغييرات التي نأمل ان تكون لصالح بلادنا وثقافتنا التي نحبها.