شهدت المناطق العراقية والسورية المتاخمة للحدود التركية مؤخرا تحركات عسكرية تركية واسعة وهجمات واسعة ومتكررة بواسطة الطائرات والصواريخ التركية ضد مواقع الانفصاليين الأكراد سواء من حزب العمال الكردستاني التركي أو المنظمات الكردية السورية المسلحة الأخرى، وهذه التحركات العسكرية أوسع من أن تكون مجرد رد على هجمات الانفصاليين الأكراد ضد القواعد التركية في شمال العراق أو شمال سوريا بل إنها تأتي في سياق السياسة التركية المتبعة تجاه سوريا والانفصاليين الأكراد لا سيما وأن «قسد» عقدت مؤتمرها الرابع في 20 ديسمبر الماضي تحت شعار: «وحدة السوريين ديمقراطية تعددية لا مركزية»، وأصدرت وثيقة أطلقت عليها اسم: «عقد اجتماعي» استخدمت فيها مصطلحات كشفت عن نيتها وخططها المستقبلية، واستخدمت كلمة «إقليم»، في إشارة للمناطق التي تخضع لسيطرتها.
ويأتي ذلك كله بالتزامن مع تسريبات نشرتها صحف أمريكية حول نية الولايات المتحدة سحب قواتها من سوريا، ورغم أن الدوائر الرسمية الأمريكية نفت هذه التسريبات لكن هناك العديد من الدلائل التي تؤكدها إن لم يكن على المدى القصير فعلى المدى المتوسط، ولذلك كله فإن الدور التركي في سوريا يزداد تأثيره يوما بعد يوم، ومن هنا تأتي أهمية تأمل محددات السياسة التركية تجاه سوريا
وفي الواقع فإن هناك العديد من المحددات الداخلية والخارجية التي تلعب دورا رئيسا في صنع السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا وهي:
أولا- المحددات الداخلية
المحددات الداخلية التي تؤثر بشكل كبير على السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا يمكن إيجازها على النحو التالي:
الأمن الوطني
التهديدات الأمنية المباشرة أو غير المباشرة من الأزمة السورية ضد أمن تركيا تلعب دورا مهما في تشكيل سياسة تركيا تجاه سوريا، خاصة في ظل وجود العناصر الكردية الانفصالية في سوريا، ووجود تنظيمات إرهابية مثل داعش، فكل هذا يمثل تهديدا أمنيا متزايدا يأتي من الحدود الجنوبية لتركيا في ظل السيولة والفوضى في الأراضي السورية وانتشار التنظيمات الكردية وغيرها مما تصنفها تركيا منظمات إرهابية وفي ظل سعي الأكراد لبناء دولة لهم في شمال سوريا تأوي الأكراد الأتراك الانفصاليين وتحديدا تنظيم العمال الكردستاني.
الديناميات السياسية الداخلية
العوامل السياسية والانقسامات الداخلية في تركيا تلعب دورا في تشكيل سياستها الخارجية، وقد تؤثر وجهات النظر المتنوعة في الساحة السياسية على القرارات الخارجية.
الضغوط الاقتصادية
الضغوط الاقتصادية المتزايدة أو الحاجة إلى دعم اقتصادي يمكن أن يؤثر على القرارات الخارجية، خاصة إذا كان هناك تأثير اقتصادي مباشر أو غير مباشر نتيجة للأزمة السورية.
الأبعاد الدينية والثقافية
العلاقات الثقافية والدينية بين تركيا والشعب السوري، خاصة مع كون ثوار سوريا هم من الأغلبية السنية في سوريا في حين أن الأغلبية في تركيا هي من المسلمين السنة أيضا.
الضغوط الداخلية
ضغوط الرأي العام والمجتمع في تركيا تؤثر أيضا على السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا، وخاصة إزاء الاهتمام بشؤون السوريين وآثار ذلك على الأزمة الاقتصادية والاجتماعية داخل تركيا.
ثانيا-المحددات الخارجية
هناك عدد من المحددات الخارجية تؤثر بشكل كبير على السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا ويمكن إيجازها على النحو التالي:
العلاقات الإقليمية والدولية
علاقات تركيا مع دول الجوار واللاعبين الدوليين والإقليميين، مثل إيران وروسيا والولايات المتحدة وأوروبا، تؤثر على سياستها تجاه سوريا.
التحالفات الدولية والإقليمية
عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وعلاقاتها مع الدول الغربية تلعب دورا في توجيه سياستها الخارجية، كما أن الضغوط والتأثير من الشركاء الدوليين يمكن أن يؤثر على قرارات تركيا، وخاصة علاقات تركيا مع كل من الولايات المتحدة وروسيا حيث تساند الولايات المتحدة الانفصاليين الأكراد بينما تساند روسيا نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
تطورات الأحداث الإقليمية والدولية
تطورات الأحداث في الشرق الأوسط والأحداث الإقليمية والدولية تلعب دورا في تشكيل سياسة تركيا، بما في ذلك تأثير القرارات الدولية وقرارات الأمم المتحدة.
التحالفات الإيديولوجية
التوجهات الإيديولوجية والقيم السياسية يمكن أن تلعب دورا في تحديد مواقف تركيا تجاه الأحداث في سوريا.
اللاجئون السوريون
الضغط الناتج عن تدفق اللاجئين السوريين إلى تركيا يمكن أن يؤثر على السياسة الخارجية، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع الأزمة الإنسانية والتأثيرات على البنية الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك من حيث تدفق اللاجئين والضغط الاقتصادي والاجتماعي الذي تسببت فيه، ومن ناحية أخرى فالتداول الدولي لمعضلة اللاجئين ودور تركيا في استضافة وإدارة اللاجئين السوريين كل هذا له تأثير على السياسة الخارجية تجاه سوريا.
التوترات الجيوسياسية
التوترات الجيوسياسية في المنطقة، بما في ذلك التنافس التركي مع إيران في حين أن إيران تدعم الرئيس السوري بشار الأسد، وكذا كافة التأثيرات على الحدود التركية-السورية فكلها تلعب دورا في صناعة السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا.
السياسة الخارجية التركية إزاء سوريا
ولا شك أن دور تركيا برز بشدة بين دول إقليم الشرق الأوسط بعدما زاد وزنها السياسي والاستراتيجي لعدة أسباب من بينها التشرذم العربي وضعف سوريا والعراق وهما الدولتان العربيتان اللتان تملكان حدودا مع الدولة التركية.
ومن المعروف أن الجمهورية التركية سلكت سياسة خارجية لها أغراض عديدة بعد وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا عام 2002 كما زادت بصمة قيادة الدولة التركية في صنع السياسة الخارجية التركية لا سيما فيما يتعلق بسياساتها التدخلية إزاء سوريا، والتي بدأت إثر الثورة الشعبية السورية في عام 2011.
بعد فشل المحاولة الانقلابية في تركيا عام 2016 أحكم أردوغان سيطرته على الجيش وفي نفس الوقت أدرك أن اللاعبين الأساسيين في سوريا و هم نظام الرئيس بشار الأسد، والروس، والأميركيون، والإيرانيون، قد نجحوا في ترسيخ أمر واقع جديد في الساحة السورية و أدرك أن استقرار هذا الأمر الواقع يهدد مصالح تركيا القومية وأمنها القومي فعمد إلى تغيير هذا الأمر الواقع بالقوة المسلحة عبر التدخل العسكري والتمركز في شمال سوريا بعدما أحجم منذ 2011 وحتى صيف 2016 عن التدخل العسكري المباشر.
ومن هنا أطلقت تركيا عملية “درع الفرات” في أغسطس 2016، بعد شهر من فشل الانقلاب ضد أردوغان في تركيا، وأعلنت أن هدف “درع الفرات” هو التصدي لمجموعات تنظيم الدولة وحزب العمال الكردستاني، في منطقة جرابلس-الباب على الجانب السوري من الحدود التركية-السورية.
وفي 2018 أطلقت تركيا عملية عسكرية ثانية أسمتها “غصن الزيتون”، استهدفت الجماعات الكردية المسلحة في منطقة عفرين، شمال غربي سوريا، التي ظلت لسنوات ممر للمجموعات المسلحة الكردية من سوريا إلى تركيا.
وفي 2019 أطلق الجيش التركي عملية واسعة في الشمال الشرقي من سوريا، شرقي الفرات، أسماها “ينابيع السلام” أعلن أن هدفها إبعاد القوات الكردية المسلحة عن الحدود التركية الجنوبية.
وفي مارس 2020 أطلق الجيش التركي عملية عسكرية في إدلب لحماية المدنيين السوريين من هجمات قوات النظام المتكررة وأسماها “درع الربيع”، وكانت إدلب طبقا لاتفاقات سابقة مع روسيا، منطقة عدم تصعيد.
وقد حققت تركيا -عبر هذه العمليات- وجودا عسكريا، قد يطول، في معظم الشريط السوري الشمالي تحت شعار حماية ملايين السوريين وإيجاد موطن آمن لعودة عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى وطنهم، وتأمين معظم المنطقة الحدودية التركية-السورية من اختراقات الجماعات الكردية المسلحة.
إن بعض هذه العمليات، تم بتوافق مع الأميركيين والروس، لاسيما عملية درع الفرات، ولكن العمليات الأخرى أُطلقت بالرغم من معارضة الأميركيين أو الروس.
ونتج عن هذه السياسة العديد من الفوائد للجمهورية التركية ولعل أبرزها هو أن تمركز تركيا العسكري في أجزاء من شمال شرق سوريا ضرب مشروع الدولة الكردية في مقتل ووضع تركيا في مواجهة مصيرية مع القوميين الأكراد وداعميهم مما سيحملها تكلفة سياسية وأمنية واقتصادية من جراء هذه المواجهة لكنه حمى الأمن القومي التركي من هذا المشروع الكردي العتيد، فالمشروع القومي الكردي يطمح لإقامة دولة كردية موحدة تضم أجزاء من العراق وسوريا وتركيا وهو مدعوم أمريكيا واسرائيليا منذ ستينات القرن العشرين وحتى اليوم.
ولكن تواجه السياسة التركية تجاه سوريا عدة مشكلات مهمة منها على سبيل المثال لا الحصر أنه يجب على تركيا تفادي الإفراط في تحمل أعباء الدور الذي تقوم به لأن مثل هذا الإفراط أدى دائما إلى انهيار القوى الكبرى التي وقعت في فخ تدخلات خارجية مكلفة سياسيا واقتصاديا وعسكريا.
بالإضافة إلى الإشكاليات الناتجة عن التعامل مع الأراضي السورية التي صارت تحت السيطرة التركية والتي تضم ملايين اللاجئين السوريين بما يعنيه ذلك من أعباء وتكلفة اقتصادية وإدارية وأمنية فضلا عن العبء السياسي.
يضاف الى ذلك مشكلة ملايين اللاجئين السوريين المقيمين داخل الجمهورية التركية وما يتبع ذلك من أعباء اقتصادية وأمنية فضلا عن عبئها السياسي لا سيما وأنها صارت ورقة مساومة ودعاية سياسية في أي انتخابات سواء برلمانية أو رئاسية أو محلية تركية.
وأيضا هناك مشكلة تعدد المنظمات السورية المسلحة التي تجمعت كلها في الشمال السوري الواقع تحت السيطرة التركية وتنوع اللون السياسي والأيديولوجي لهذه المنظمات من ليبرالية إلى إسلامية متطرفة مرورا بالإسلامية المعتدلة وما يمثله ذلك من عبء وتكلفة أمنية وسياسية تقع كلها على كاهل تركيا.