الأمة الثقافية

قرأتُ لك: سيرة عُمران القاهرة التاريخية

من رأى القاهرة قبل 100 عام أو أكثر قليلا تأخذه الدهشة لما آلت إليه حال العاصمة الآن؛ القاهرة بمنشآتها ومبانيها المزخرفة، وميادينها الوارفة بأجمل الحدائق، وشوارعها التي كانت تُغسل بالماء والصابون.

العاصمة المصرية كانت تشبه البندقية الإيطالية في كثير من شوارعها التي يشقها الخليج المصري من سور مجرى العيون حتى أقصى الشمال، وعلى جانبيه تطل المنازل بنوافذها على مجرى المياه.

قاهرة الوكالات التجارية التي يأتيها التجار من كل دول العالم عبر طريق الحرير، قاهرة القصور الفخمة والغورية قبل أن يشق ويولد شارع الأزهر وشارع الصليبة العريق بالسيدة زينب، والخانقاوات بدرب الجماميز، والمقاهي الشعبية، وطائفة المكارية حيث يقفون وحميرهم لنقل السيدات والأطفال قبل أن يأتي “الترماي”، ثم يذهب كما ذهبت الحمير من قبل. من دون مقابل.

وفي المناسبات السعيدة كانت القاهرة تخرج وتصطف على جانبي الشوارع من ميدان الرماية وحتى بركة الحاج بمنطقة المرج لتشاهد احتفال خروج المحمل وهو في طريقه للحج.

كيف كانت القاهرة قبل شق شارع الأزهر؟ وكيف كان شكل الغورية والحمزاوي والموسكي؟ وأين ذهبت موانيها التي لا تنام؟ أين ذهبت ساحات الانتظار ومناطق نقل البضائع على النيل أمام مرسى المراكب التي كانت تتهادى في النيل ليل نهار؟

لجنة تخليد القاهرة

هذه القاهرة القديمة تذكرها القاهريون مع إقامة معرض “ذاكرة المدينة عمارة وعمران القاهرة” في الفترة من 1881 إلى 1954م، وهي فترة أعمال لجنة حفظ الآثار العربية، حيث تم عرض مجموعة من الصور الفوتوغرافية القديمة والنادرة للمباني التي قامت “لجنة حفظ الآثار العربية” بحصرها، وتم تصويرها من أعلى أسوار قلعة صلاح الدين وأعلى مآذن القاهرة؛ مما يوضح النسيج العمراني للقاهرة، مع عرض أهم الشوارع والأسواق والحواري والأزقة والقصور والمساجد والقبور والتكايا والأسبلة والمدارس التاريخية، مع استعراض للحياة اليومية والأسواق الشعبية للقاهرة القديملجنة حفظ الآثار العربية القديمة أُسست بموجب أمر عالِ من الخديوي توفيق صدر في 18 ديسمبر 1881م (26 محرم 1299هـ) بهدف الحفاظ على الآثار الإسلامية والمسيحية في مصر، ورغم الاحتلال الإنجليزي في سبتمبر/أيلول 1882 فقد ظلت تعمل حتى حُلت سنة 1961، حسب محاضر جلسات لجنة حفظ الآثار العربية القديمة لسنتي 1882 و1883م.

يصف المؤرخ ابن تغري بردي تطور القاهرة في العصور الوسطى، حيث بلغت القمة في تطورها العمراني في العصر المملوكي (648-923هـ/ 1250-1517م)، مع سلطة الملك الظاهر بيبرس البندقداري (1260-1277م)، حيث “بُني في أيامه ما لم يبن في أيام الخلفاء المصريين (الفاطميين) وملوك بني أيوب من الأبنية والرباع والخانات والقواسير والدور والمساجد والحمامات”، حسب ابن تغري بردي في كتابه “النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، الجزء السابع”.

مراحل التطور العمراني

حول التطور العمراني للقاهرة التاريخية خلال العصور الوسطى، التقت الجزيرة نت أستاذ الآثار بكلية الآداب جامعة “عين شمس” محمد حسام الدين إسماعيل الذي قال إن عصر الناصر محمد بن قلاوون يعد العصر الذهبي لتعمير القاهرة، حيث تولى حكم مصر 3 مرات؛ من 1293-1294، ومن 1299-1309، ومن 1309 حتى وفاته سنة 1341، وبقيت حدود القاهرة من دون تغيير منذ عهده حتى نهاية العصر العثماني، حيث امتد العمران بالقاهرة شمالا عبر الصحراء، وفي الشمال الغربي، وغربي الخليج المصري في الأرض التي اتصلت به من طرح النيل، ومن جنوب القاهرة حتى اتصلت بالقلعة ومصر القديمة والسيدة نفيسة.

وأضاف أن الناصر بن قلاوون شيد عدة قناطر، وقام المماليك من بعده بتعمير الجانب الغربي من الخليج؛ فكانت البساتين. وفي سنة 720هـ/1320م، حفر الناصر محمد البركة الناصرية على الجانب الغربي للخليج المصري وبُنيت عليها الدور العظيمة.

عمران ترفيهي

وفي سنة 725هـ/1324م، حفر الناصر بن قلاوون الخليج، وكانت بدايته (فمه) بالقرب من قصر العيني (فُم الخليج) ويتجه شمال شرق حتى يلتقي مع الخليج الكبير عند جامع الظاهر بيبرس في حي الظاهر، وأنشأ الناصر القناطر على الخليجين حتى يسهل الاتصال بين البر الغربي للخليج بالقاهرة الفاطمية مركز التجارة الرئيسي، حسب محمد حسام إسماعيل.

وزاد فيضان النيل من طرحه، فظهرت أرض جديدة، وأنشئ ميناء “أثر النبي” في مصر القديمة الذي امتد من منطقة أثر النبي جنوبا مرورا بمصر القديمة، ثم بولاق حتى منية السرج شمالا.

وعمل الناصر بن قلاوون على إيجاد تعمير ترفيهي غرب الخليج وعلى النيل ويتمثل في الميادين، فأنشأ الميدان السلطاني على النيل، وميدان المهاري بجوار البركة الناصرية، وغيرهما.

ويضيف الدكتور حسام أن يد التعمير خلال حكم السلطان ابن قلاوون انتقلت إلى خارج السور الجنوبي للقاهرة الفاطمية؛ فتم تعمير منطقة تحت الربع، وحول بركة الفيل، وأقام كبار الأمراء قصورهم ومنازلهم في المنطقة بين باب زويلة وقلعة صلاح الدين، وعُمرت المنطقة من باب زويلة إلى باب الوزير حتى اتصلت بالقلعة.

وأولى الناصر بن قلاوون اهتمامه بميداني الرميلة والسلطاني تحت القلعة، ومد إليهما الماء عن طريق مجرى العيون، وانتعشت الأسواق التي ارتبطت بالنظام العسكري المملوكي حول ميدان الرميلة، مثل سوق السلاح وسوق الخيل وسوق الخيام، وأقيم حول الميدان عدد من القصور للأمراء، وعمّرت الطريق من ميدان الرميلة إلى قناطر السباع بالقصور، ومنطقة ما بين قبة الإمام الشافعي إلى القرافة (بميدان السيدة عائشة حاليا) لأنها كانت مسار الطريق السلطاني المستخدم للسفر للحجاز والشام، وفق حسام إسماعيل

الخليج الهادئ

يذكر المؤرخون والرحالة أن الخليج المصري كان يمر بين البيوت التي كانت تطل عليه مباشرة، كما هو في البندقية الآن، لكن تم ردمه في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني عام 1897، وأنشأ مكانه ترام القاهرة، وتحول إلى شارع الخليج المصري، ثم شارع بورسعيد عام 1956.

ويستطرد الدكتور حسام إسماعيل أن الأشرف قايتباي (883-901هـ/1467-1496م) نشط في تعمير القاهرة بمساعدة الأمير يشبك، حتى تم إنجاز منشآت كبيرة في شمال القاهرة، وصارت من أعظم متنزهات مصر، وبقي من هذه المجموعة ما يعرف الآن “بالقبة الفداوية” أمام الكاتدرائية بشارع العباسية.

وتقف وكالة قايتباي واحدة من منشآت السلطان قايتباي التي ما تزال بعض بقاياها قائمة بشارع السروجية بمدينة القاهرة، والتي كانت ضمن الأوقاف المتعددة التي أوقفها السلطان على المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة.

وفي ضواحي القاهرة الشمالية، بنى الأمير يشبك مجموعة معمارية كبيرة جنوب المطرية بقي منها القبة، وعرف الحي الذي أنشأت فيه “حي القبة”، وكانت هذه المنطقة متنزها جميلا وحقولا وبساتين خلال العصر المملوكي.

ويضيف الدكتور إسماعيل أنه في أيام السلطان قايتباي امتد التعمير للضفة الغربية للخليج، حيث حفر الأمير الأتابك أزبك بركة كبيرة وأجرى إليها الماء من الخليج المصري، وأنشأ حولها القصور والقاعات والحمامات، وأنشأ بها مسجدا كبيرا، واهتم بها ثراة القاهرة وأعيانها، وانتقلوا إليها لتصبح منطقة “الأزبكية” من أكثر الأحياء عمارة وجمالا.

أصحاب الحرف

وينتقل خبير الآثار خالد عزب إلى مرحلة تاريخية جديدة في عمر القاهرة، ويقول للجزيرة نت إنه في بداية العصر العثماني ونهاية العصر المملوكي زار مصر الرحالة الحسن بن الوزان المعروف بـ”ليون الأفريقي”، ووصف القاهرة وصفا ليس به أي تغيير عما كانت عليه أيام حكم السلطان الغوري.

ويضيف أن القاهرة لم تكن منشآت وقصورا وقبورا فقط، بل كانت حياة ونهضة شاملة وصناعا وتجارا يجوبون العالم، وفي هذه الفترة نشأت بعض المهن لخدمة المدينة وتوسعاتها، فكان لكل فئة من الخدم منطقة معروفة وحي أو حارة يسكنون فيها، مثل حارة السقايين في حي عابدين (وسط القاهرة)، وكانت الحارة مكانا لتجمع السقاة، وكانت تضم مهنة من أقدم المهن الموجودة فى مصر، وربما هي الأقدم على الإطلاق، وهى مهنة “السقا”، وكان السقاة يحملون فوق ظهورهم القرب المصنوعة من جلد الماعز، ويزودون بها المنازل، وكذلك مهنة “المكارية ” التي كانت تقوم على نقل المواطنين والسيدات داخل القاهرة بالحمير والحنطور.

ويضيف عزب أن القاهرة حافظت على شكلها ومساحتها طوال العصر العثماني، ووصف أكثر الرحالة الذين زاروا مصر في العصر العثماني شوارع وميادين القاهرة، وكان أطولها الشارع الموصل بين باب الحسينية إلى باب السيدة نفيسة، ولم يكن بالقاهرة سوى 4 ميادين فسيحة، هي: قرة ميدان تحت القلعة، وميدان الرميلة بجواره، وميدان بركة الفيل، وميدان الأزبكية.

كل أحياء الباشا

ولما جاء الوالي محمد علي باشا الكبير (1805-1848م) شق بالقاهرة مجموعة من الطرق الجديدة على الطرز الغربية، فتمت إزالة الخرائب وأنشئت مكانها المتنزهات والحدائق.

وبدأت بعض الأحياء الازدهار والارتقاء؛ منها غاردن سيتي، وشبرا الذي امتلأ بالقصور والحدائق والمتنزهات الملكية في القرن 19 وبدايات القرن العشرين، قبل أن يصبح حي الطبقة الوسطى الصغيرة، وكان شارع شبرا واحدا من أطول وأكبر 3 شوارع مستقيمة تقطع القاهرة، وطولها يصل إلى عدة كيلومترات، وهي شوارع الهرم ورمسيس وشبرا، حسب الدكتور عزب.

ومع تولي الخديوي إسماعيل دفة الحكم أحدث انقلابا معماريا جديداً بالقاهرة، بعد تخطيطه وإنشائه القاهرة الخديوية، وإنشاء أول جسر في مصر للعبور على النيل، وهو كوبري قصر النيل بالقرب من ميدان التحرير، ويتميز بالتماثيل الأربعة للأسود القابعة عند مدخلي الكوبري.

وحتى بدايات القرن العشرين، لم تكن شوارع كثيرة في القاهرة التاريخية قد ولدت بعد؛ فشارع الأزهر لم يكن موجودا حتى وقت قريب، وجاءت فكرة شق شارع الأزهر أثناء زيارة الملك فؤاد لمسجدي الحسين والأزهر عن طريق شارع الموسكي وجوهر القائد، وما لاقاه موكبه آنذاك من الصعوبات، فتم شق الشارع بما صاحبه من تغييرات كثيرة في منطقتي الحمزاوي والغورية، بعد أن قطع امتداد شارع المعز لدين الله وفصله عن الغورية، واختفت الساحات التاريخية في نهر الشارع الجديد.

لقد اختفت الكثير من ملامح القاهرة التاريخية لصالح قاهرة جديدة، بعد أن تنازلت عن هويتها وشخصيتها القديمة، وكانت القاهرة مدينة عالمية إلى منتصف القرن العشرين، فأصابها الترهل والانفجار السكاني والعمراني حتى أكل منها الأخضر واليابس، وأصبحت بلا شخصية محددة، وتحولت مبانيها إلى كتل من الإسمنت، وتخللتها العشوائيات التي استفحلت حتى كادت أن تخنق المدينة الأم.

وفي العصر الراهن، لم يبقَ سوى بعض المنشآت القديمة التي ما زالت بعض المعارض تذكرنا بأن القاهرة التاريخية لم تختفِ بعد.

المصدر: الجزيرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى