{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}. آية، وقاعدة خالدة تسري في حياة الأمم كما تسري في حياة الأفراد. وعلى هذا الأساس كتب محمد عبد الله السمان كتابه البليغ “الذين طغوا في البلاد”، ليكشف عبر صفحات تتقد وعيًا وشهادة، أن الطغاة مهما علت أصواتهم، واشتدت سطوتهم، وسخّروا من حولهم الألسن والسيوف، فإن نهاياتهم دائمًا مذلّة، لا تبقي لهم مجدًا ولا تراثًا.
الفكرة العامة: الطغيان لا يُورث سوى الهلاك
يؤسس السمان فكرته على يقين قرآني متين، مفاده أن الطغيان لا يدوم، وأن التاريخ البشري إنما هو سجلٌ مفتوح لانهيارات المتجبرين. يتنقل بنا بين صفحات الكتاب في استعراض حيّ لأشهر الطغاة، بدءًا من فرعون الذي قال: “أنا ربكم الأعلى”، ومرورًا بـنمرود الذي تحدّى إبراهيم، وقارون الذي اغتر بكنوزه، وهامان الذي سخّر العلم في خدمة السلطة، وانتهاءً بما يشبه الطغاة المعاصرين، الذين وإن لم يذكر أسماءهم، فإن إشاراته إليهم لا تخفى على القارئ الذكي.
يعود بنا السمان إلى الجذور الأولى للطغيان، فيُحلّل كيف ينشأ الطاغية في أحضان مجتمع يُهين كرامته، وعلماء يُفتون له، وشعبٍ يُصفّق له، وإعلامٍ يُصوّره نبيًا أو مخلّصًا. فليس الطاغية ـ في نظره ـ فردًا مجردًا، بل هو نتاج بيئة كاملة تستسلم وتخنع.
مضمون الكتاب: قراءة في السنن والنهايات
الكتاب ليس سَردًا تاريخيًا جافًا، بل هو تحليل قرآني عميق لسنن الله في الأرض، ويستند إلى آيات كثيرة يربطها المؤلف بوقائع تاريخية حية، منها:
سنة الإمهال ثم الأخذ: فالطغاة يُمهلون ليزدادوا إثمًا، ثم يُؤخذون على غرة.
سنة التكرار: إذ تتكرر أنماط الطغيان كما تتكرر نهاياتهم، فالغرور، والتأله، والاستعلاء، كلها تتبعها حلقات السقوط.
سنة العاقبة للمتقين: حيث ينتصر المستضعفون في نهاية المطاف، وتزول عروش الطغاة كما زالت قبورهم في الرمال.
كما يفرد فصولاً يشرح فيها:
صفات الطغاة النفسية (الغرور، الجبن، حب السيطرة، الاستبداد بالرأي)
أدواتهم (الإعلام، العلماء المزيفون، جهاز الأمن، ترهيب الشعب، تغييب الوعي)
كيف يفسد الطغيان الدين والسياسة والاقتصاد والفكر
كيف تكون نهايتهم عبر “الاستدراج” الإلهي حتى السقوط المدوي
وفي كل فصل، يمزج بين النص القرآني، والتحليل الواقعي، والرؤية الدعوية التي تُنذر ولا تُجامل، وتوقظ الضمائر دون أن تدخل في مهاترات.
الطغيان المعاصر.. إشارات لا تُخطئ الهدف
رغم أن المؤلف لا يذكر أسماء، فإن الروح النقدية الحاضرة في كل صفحة تُشبه مرآة ساخرة يراها القارئ ويقول: هذا يتحدث عن واقعنا. عن هؤلاء الذين يحكمون بالنار والحديد، وينفقون على الحاشية بينما الشعوب جائعة، ويظنون أن التمكين في الأرض يعني الخلود.
وقد اتخذ المؤلف من القصص القرآني أداة لفضح الطغيان الحديث، فجعل من فرعون النموذج الأبدي لكل ديكتاتور، وجعل من موسى رمزًا للدعوة والمقاومة، ومن بني إسرائيل رمزًا للشعوب المقهورة التي تخاف وتطيع وتُستَضعف حتى تنهض بإرادة الله.
محمد عبد الله السمان.. كاتب الدعوة ومقاومة الظلم
محمد عبد الله السمان هو أحد المفكرين والدعاة البارزين في أواخر القرن العشرين، اشتهر بأسلوبه السلس، وقدرته على ربط النصوص الشرعية بالواقع السياسي والاجتماعي. كان حاضرًا بقوة في ساحة الوعي الإسلامي، وكتب في قضايا الطغيان، والعدالة، وتحرير الإنسان من الداخل قبل الخارج.
يمزج السمان في كتاباته بين الوعظ العميق والفكر الراقي، ويتميّز بقدرته على تقديم التاريخ كدرس عملي لا كماضٍ منسي. وقد ألّف كتبًا أخرى في نفس السياق، لكنها لم تبلغ شهرة هذا الكتاب، الذي يُعدّ ذروة نضجه الفكري.
الكتاب في سياق أدبيات مقاومة الطغيان
كتاب “الذين طغوا في البلاد” لا يمكن فصله عن التيار الأوسع الذي تشكّل في الفكر الإسلامي منذ أوائل القرن العشرين، والذي بدأ بصرخات الكواكبي في “طبائع الاستبداد”، وامتدّ في أدبيات سيد قطب، وفتحي يكن، وسلمان العودة، وعلي الصلابي.
لكن السمان ينفرد بلغة قرآنية تربوية أكثر صفاءً، وأقلّ تصادمًا، وإن ظلت إشاراته السياسية لا تُخطئ هدفها. كما أن تحليله الطاغي على الجانب السنني يجعل الكتاب مدرسة في فهم فلسفة التاريخ من خلال القرآن.
الطغاة ليسوا أنصاف آلهة.. بل بشر يفسدهم الصمت
إذا كان الطغاة يصعدون على أكتاف الخوف، فإن السقوط يبدأ حين تفيق الشعوب من غفلتها. و”الذين طغوا في البلاد” ليس كتابًا في التاريخ فقط، بل هو رسالة في النهضة، وتنبيه من التكرار، ودعوة إلى أن نفهم الماضي لئلا نصنع طغاة جدد بأيدينا.
فالذين قال الله عنهم: ﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾ سورة الفجر (الآية 11-13)
هم ذاتهم الذين يتكررون في كل زمان، لكن العذاب أيضًا يتكرر، لأن العدل لا ينام.