يُعَد كتاب “دولة اليهود” (Der Judenstaat)، الذي ألّفه الصحفي النمساوي اليهودي تيودور هرتزل (1860–1904)، أخطر نص سياسي في أواخر القرن التاسع عشر، وأحد أكثر الكتب تأثيراً في مجرى التاريخ الحديث.
هذا المؤلَّف الصغير الحجم الكبير الأثر كان بمثابة المانيفستو الأول للحركة الصهيونية، وهو النص الذي نقل الحلم اليهودي من حيز الأمنية الدينية والأسطورة التاريخية إلى واقع سياسي منظم تُرجم لاحقاً إلى قيام دولة إسرائيل عام 1948.
مضمون الكتاب
كتب هرتزل نصه بالألمانية عام 1896، في فيينا، فكان أقرب إلى بيان تعبوي مباشر يطرح “حلاً نهائياً للمسألة اليهودية في أوروبا”. إذ رأى أن اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية مستحيل، وأن معاداة السامية قدر محتوم لا مفر منه، وأن السبيل الوحيد للخلاص هو إقامة وطن قومي لليهود.
اقترح هرتزل خيارين لموضع هذه الدولة: الأرجنتين بما تملكه من مساحات شاسعة، وفلسطين بما تمثله من رمزية دينية وتاريخية. لكنه سرعان ما رجّح كفة فلسطين، إذ تمنح المشروع غطاءً أسطورياً وشرعية روحية.
الأفكار الرئيسة
اليـهود شعب واحد له قومية مستقلة، لا يمكن أن يذوب في المجتمعات الأوروبية.
معاداة السامية دائمة، والحل الوحيد هو دولة يهودية.
يجب تأسيس “جمعية اليهود” للقيادة السياسية و**”شركة يهودية”** لتدبير الشؤون الاقتصادية والاستيطانية.
الدولة ينبغي أن تُقام على أسس حديثة منظمة، لا على هجرات فردية متناثرة.
بهذا الطرح وضع هرتزل ملامح خطة متكاملة، سياسية واقتصادية وثقافية، تُرجم معظمها لاحقاً في مؤتمرات الحركة الصهيونية.
الأثر التاريخي
ما إن صدر الكتاب حتى دوّى صداه في الأوساط اليهودية والأوروبية. وفي العام التالي مباشرة عقد هرتزل مؤتمر بازل (1897) الذي أُعلن فيه رسمياً قيام الحركة الصهيونية، حيث كتب في يومياته: “في بازل أسست الدولة اليهودية، وبعد خمسين عاماً أو أقل ستقوم حقاً”. وقد تحققت نبوءته تقريباً، إذ أُعلنت دولة إسرائيل بعد واحد وخمسين عاماً فقط، عام 1948.
لكن الكتاب لم يكن محل إجماع يهودي؛ فقد رفضه دعاة الاندماج الذين رأوا أن اليهود مواطنون في بلدانهم، كما عارضته تيارات دينية متشددة اعتبرت عودة اليهود إلى فلسطين لا تكون إلا بأمر إلهي.
الترجمات العربية وردود الفعل الأولى
وصل الكتاب إلى العالم العربي في بدايات القرن العشرين عبر ترجمات جزئية وأخبار متناثرة عن مؤتمرات الصهيونية. ومع وعد بلفور (1917) بدأت النخب العربية تدرك خطورة المشروع. فاعتبر الكتاب عند المثقفين العرب والمسلمين وثيقة استعمارية جديدة، لا تقل خطراً عن مشاريع السيطرة البريطانية والفرنسية.
نقد المفكرين العرب والمسلمين
أدرك مفكرون عرب بارزون أن “دولة اليهود” ليست مجرد حلم يهودي بل خطة استعمارية كبرى. كتب شكيب أرسلان محذراً من المشروع باعتباره رأس حربة استعمارية غربية في قلب الأمة. أما محمد رشيد رضا فقد كشف في مقالاته أن هرتزل يسعى إلى إحياء “إسرائيل الكبرى” على حساب العرب والمسلمين. كما تناول مصطفى صادق الرافعي ومفكرون آخرون خطر المشروع على الهوية الإسلامية والثقافة العربية، معتبرين أن الهجرة اليهودية إلى فلسطين ليست إلا مقدمة لاقتلاع شعب كامل من أرضه.
الخطر الصهيوني على العرب والمسلمين
لم يكن كتاب هرتزل مجرد طرح سياسي، بل كان بذرة مشروع استعماري توسعي يستهدف قلب العالم الإسلامي. فاختيار فلسطين لم يكن عبثاً؛ إنها الأرض التي تربط آسيا بأفريقيا، ومهوى أفئدة المسلمين بقدسها وأقصاها. وبقيام إسرائيل تحققت للحركة الصهيونية موطئ قدم استراتيجي يهدد الأمن العربي والإسلامي كله.
لقد أثبت التاريخ أن الصهيونية لم تكن حركة “قومية يهودية” فحسب، بل كانت ولا تزال أداة استعمارية كبرى، وظيفتها ضرب وحدة المنطقة ونهب ثرواتها، وزرع بؤرة صراع دائم تستنزف العرب والمسلمين سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
هرتزل.. الأب الروحي للصهيونية
وُلد تيودور هرتزل عام 1860 في بودابست، ودرس القانون قبل أن يتجه إلى الصحافة. عايش قضية دريفوس في فرنسا، ورأى مظاهر العداء لليهود، فاستخلص أن اندماجهم في أوروبا وهم. لم يعش طويلاً (توفي عام 1904)، لكنه ترك إرثاً سياسياً أشبه بالقنبلة التي انفجرت بعد نصف قرن، وما زالت شظاياها تتطاير في جسد المنطقة حتى اليوم.
أهمية الكتاب اليوم
لا يمكن فهم الصراع العربي–الإسرائيلي من دون قراءة “دولة اليهود”. فهو يفضح الجذور الفكرية والسياسية للصهيونية، ويكشف كيف تحوّل نص صغير إلى خطة عالمية، ثم إلى كيان سياسي مدعوم من القوى الكبرى. وهو يذكّر العرب والمسلمين بأن الخطر الصهيوني ليس عابراً، بل مشروع طويل الأمد يتغذى على الضعف والتفرق، ولا سبيل لمواجهته إلا بالوعي والوحدة والثبات.