اختتم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جولته في دول الخليج بجعجعة ولا طحين، وانفضت قمة بغداد العربية بكلام دون فعل، وبقيت غزة وحدها صامدة أمام حملة الإبادة الصهيونية التي تحملها خطة (عربات جدعون)، تعلو صرخات استغاثاتها ولا مغيث، لم تستطع 57 دولة عربية وإسلامية إدخال رغيف خبز أو شربة ماء لإخوانهم المشردين المحاصرين الجياع، منح أصحاب السمو الأموال والهدايا لترامب بـأكثر من 4 تريليونات دولار ولم يحصلوا منه على وعد، مجرد وعد، بتأمين المساعدات الإنسانية لغزة، تحدثوا معه عن سوريا وإيران واليمن وأوكرانيا لكنهم لم يحدثوه عن قضيتهم الأقرب، أغدقوا عليه بالمال فأسبغ عليهم بعبارات الثناء وصفات الشجاعة والعبقرية، ونسوا أن في أموالهم حقا معلوما لأولئك الذين يحاربون العدو ويدافعون عن المقدسات.
قبل زفة ترامب في الخليج كان هناك كلام كثير عن توتر العلاقات بين ترامب ونتنياهو، وعن مبادرة أمريكية (مستقلة) لإنهاء الحرب، وضغوط أمريكية على إسرائيل من أجل إدخال المعونات الغذائية إلى غزة، وقال ترامب نفسه إن إعلانا سيصدر خلال 48 ساعة سوف يحدث تغييرا كبيرا في المنطقة، وذهب خيال المراقبين والمحللين كل مذهب، ثم اكتشفنا أن المسألة برمتها ليست أكثر من مسرحية محبوكة، فالإعلان المقصود كان متعلقا بالإفراج عن الأسير الإسرائيلي الأمريكي لدى حماس عيدان ألكسندر ورفع العقوبات عن سوريا، ومفاوضات المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف مع وفدي حماس وإسرائيل في الدوحة لم تكن إلا غطاء لتمرير الوقت حتى تنتهي الجولة الصاخبة، وقد انتهت دون كلمة عن حرب الإبادة والتطهير العرقي، وإنما تكرار فاجر من ترامب عن ضرورة امتلاك غزة وتحويلها إلى (منطقة حرة)، كأنها أرض بلا صاحب، وكأن سكانها مجرد مستأجرين سيتم طردهم بموجب قانون الغاب الأمريكي.
كانت مشاهد الجولة مهينة لكل عربي حر، فما حدث فيها لم يكن ليحدث إلا في هذه البقعة من العالم، وما كان لترامب أو لغيره أن يمارس نرجسيته إلا في هذه البلاد الضاربة في القدم، لقد حمل معه المال دون أن يعط شيئا، بل حافظ على مواقفه الثابتة في دعم إسرائيل، ودعم نتنياهو شخصيا، وبمجرد أن صعد إلى طائرته في طريق العودة كرر للصحفيين المرافقين ما يقوله دائما: “لا تعجبوا.. فما أخذناه ليس إلا ثمنا قليلا لما نقوم به من أجل حمايتهم، ولولا هذه الحماية ما جلسوا على مقاعدهم يوما واحدا”.
وعندما عاد إلى واشنطن كان همه الأكبر أن يؤكد تعهداته المعروفة بالقضاء الكامل على المقاومة بكل فصائلها، والسيطرة على غزة، وشطب أي كلام عن الدولة الفلسطينية، لم تغيره الأموال والهدايا، ولم يجد معه غلق المسجد وتراقص الفتيات بشعورهن الطويلة، ولم يستطع مضيفوه أن يأخذوا منه موافقة على إدخال كسرة خبز لأهل غزة الذين يموتون جوعا وعطشا، وسوف تكون فجيعتنا أكبر عندما يفاجئنا الرجل لاحقا، وهو لا يخجل من شيء، بأن أموال الخليج عوضت خسائر أمريكا في صفقات الأسلحة التي قدمتها لإسرائيل خلال حربها على غزة، أو أنه سوف يستخدمها في تمويل تهجير أهل غزة، ورشوة الدول التي تقبل استقبالهم.
ورغم هذا القهر فإن ما حدث في الجولة الخليجية تتجاوز خطورته قضايا المال والاستثمار إلى قضايا الاستراتيجية والأمن القومي، فقد كشف ترامب عن رغبة أمريكية لتحويل ثقل ومركز القرار العربي إلى العواصم الثلاث التي زارها؛ الرياض والدوحة وأبو ظبي، وهي عواصم نفطية غنية، قادرة على أن تدفع، بل تتنافس في الدفع، لكن الأهم أنها تتماهى مع القرار الأمريكي والاستراتيجية الأمريكية تحت مسمى (دول الاعتدال)، خاصة حين يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية وغزة والمقاومة والاتفاقات الإبراهيمية على النحو الذي رأينا، وقليل منها من يجرؤ على فتح هذه الملفات الشائكة، وقد ذكر ترامب أن أميرا واحدا من الأمراء الثلاثة حدثه عن إدخال الغذاء إلى غزة لأن الناس هناك يتضورون جوعا.
وفي الاستراتيجية الأمريكية يتحدث ترامب ـ كما يتحدث نتنياهو ـ عن القضية الفلسطينية باعتبارها قضية (إرهابيين همج) يعكرون صفو الحياة على شعب إسرائيل المسالم، ويقول إن (سكان غزة) يعيشون في ظروف مؤلمة منذ سنوات، ومن حقهم أن يتمتعوا بحياة أفضل في أماكن أخرى، وإن الحرب لن تتوقف إلا بعد أن تسلم حماس سلاحها وتغادر غزة، والمشكلة هنا أن (عواصم الاعتدال) تتبنى هذه الاستراتيجية، وتتحدث بهذا الخطاب الترامبي، رغم أن ترامب ـ مثل نتنياهو ـ لن يقبل بحماس ولا بالسلطة الفلسطينية ولا فتح ولا منظمة التحرير حتى لو سلمت المقاومة سلاحها وخرجت، لأن الهدف ليس حماس، وإنما تصفية الوجود الفلسطيني بالكامل، ليس في غزة وحدها، وإنما أيضا في القدس والضفة.
وما كدنا ننفك من قهر جولة ترامب حتى داهمتنا القمة العربية في بغداد بصورتها البائسة، قمة باردة محبطة بلا روح، جسدت الضعف العربي وكشفت للعالم ما وصلنا إليه من ضعف وهوان، وقد انعكس ذلك على قراراتها فجاءت تكرارا للقرارات القديمة، كلمات مرصوصة لمجرد تأدية الواجب وإثبات الحضور، لم تلزم القمة نفسها بشيء، وخطابها موجه للآخرين كي يفعلوا مالم تفعله هي، فقد طالبت المجتمع الدولي بالتدخل لوقف الحرب ودعت إلى ضرورة فتح المعابر وإدخال المساعدات الغذائية إلى غزة، وإذا كان هذا هو أقصى ما يقدرون عليه، فلماذا كانت القمة؟ ولماذا الكلفة؟
وبينما كنا كذلك، وكانت شقيقتنا تركيا (المسلمة) مشغولة بعقد مؤتمر لوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ولم تسمع نحيب غزة، كانت هناك سبع دول أوروبية (إسبانيا والنرويج وإيرلندا وأيسلندا ولوكسمبورج ومالطا وسلوفينيا) تصدر بيانا مشتركا يدعو لوقف فوري لإطلاق النار في غزة، ورفع الحصار عن القطاع، ومحاسبة إسرائيل على أفعالها، ومعاقبتها ومقاطعتها حتى تستجيب للإرادة الدولية.
{وما يعلم جنود ربك إلا هو}.