مقالات

محمد إلهامي يكتب: الصراع حول وصف حماس بالإرهابية!

تعالَ أخبرك بنوع من المخدرات كنت تتعاطاه وأنت لا تدري..

هل ترى هذا الصراع حول وصف حماس بأنها إرهابية؟

هذا في الحقيقة هو محاولة صناعة نوع جديد من المخدرات ثبتت فعاليته في تجارب سابقة كثيرة.. لهذا يجتهد صهاينة العرب بكل طاقتهم وإمكانياتهم، عبر مراكزهم في الإمارات والسعودية ومصر، في تصنيعه وترويجه.

لظروف كثيرة تاريخية وسياسية لا يتسع الوقت الآن لعرضها، كانت قضية فلسطين من القضايا التي تبنتها الأنظمة العربية، القومية والإسلامية.

وتوفيرا للنقاش لن ندخل الآن في قصة هل كانوا صادقين أم كاذبين في تبنيها، ولكن الخلاصة أن تبنيهم لهذه القضية وفَّر لها حضورا قويا في مناهج التعليم ومنصات الإعلام ونوافذ الثقافة وفتاوى الهيئات الرسمية وحتى وسائل الفن والترفيه… إلخ!

هذا الحضور العميق والعاطفة الأصيلة والأفكار الراسخة تمثل الآن تحديا ومشكلة عظيمة تحاول هذه الأنظمة إزالتها وتفتيتها وصناعة الأمصال المضادة (أو: المخدر) الذي يزيل هذا كله، ليتقبل الناس حرب الإبادة والتجويع والحصار في غزة!

تعال أخبرك متى شربت هذا المخدر وكان أثره فعالا..

مع الأسف عزيزي القارئ، لقد شربناه جميعا بدرجات متفاوتة، شربناه أثناء تدمير الموصل وحلب وكثير من مدن أهل السنة في سوريا والعراق واليمن.. ففي كل هذه الأنحاء جرت حرب إبادة تدميرية شبيهة بما يحدث الآن في غزة! ولم تتعاطف الأمة مع هذه الحروب ولو بدرجة واحد على ألف من حرارتها تجاه غزة!

فضلا عن مذابح رابعة وأخواتها في الغوطة والقصير… إلخ!

ترى لماذا؟

لأننا تجرعنا مخدرات الحرب على الإرهاب، على أعداء الوطن، على الإخوان، على الإرهابيين التكفيريين، على داعش، على القاعدة… إلخ!

هذا النوع من المخدرات هو الذي مرَّر على ضمائرنا جميعا حرب الإبادة التي حصلت، بمختلف أنواع الأسلحة والقنابل والجرائم، ما لم يستطيعوا تمريره الآن في غزة!

بغض النظر الآن عن موقفك من الإخوان أو القاعدة أو داعش أو … أو … إلخ!.. فهذا لا يهم الآن..

ما يهمّ الآن أن تتأمل: ماذا كان سيحدث لو نجح المخدر الذي يجري تصنيعه والذي يجعل حماس جماعة إرهابية إخوانية داعشية.. تصور كيف كنت ستتقبل وتبتلع ما يجري الآن من جرائم وحشية في غزة تحت هذا العنوان، وبهذه الذريعة!

ضع نفسك الآن في مكان إنسان في غزة، وتخيل ما هو موقفك من إخوانك العرب والمسلمين الذين لا يملكون في أحسن أحوالهم إلا التفرج والتحسر والبكاء!!

ثم ضع نفسك مكانه وتخيل موقفه إذا كان هؤلاء العرب والمسلمين غافلين عنه لا يشعرون به، مخدرين ومغفلين وجهلاء، يتصورون أن الحرب لا تجري إلا على الإرهابيين والتكفيريين!!

هكذا كان الناس يشعرون في حلب والموصل والغوطة والقصير… إلخ!

ثم تعال أخبرك بأصل هذه المأساة.. إن السبب في ذلك هو أن الحق في الثورة على الظالمين السفاحين لم يكن حاضرا في ضمائرنا بنفس حضور حقنا في فلسطين..

لقد بقي الحق في الثورة مشكوكا فيه، على خلاف الحق الثابت غير المشكوك فيه في فلسطين.

إذا فهمتَ هذا، علمتَ أي واجب عظيم ينتظرك في منع تصنيع المخدر الجديد الذي يريد أن يجعل حماس إرهابية إخوانية تكفيرية داعشية..

في بعض المراحل التاريخية تكون كلمة الحق مساوية أو متفوقة على كلمة السيف! مثلما تساوى في منزلة سيد الشهداء حمزة (أحد ألمع من تكلموا بالسيف) مع من تكلم بالحق في حضرة السلطان الجائر فقُتِل من أجل ذلك!

كل مجهود يُبذل في مقاومة الخطاب الإعلامي الخياني الذي يجري تصنيعه في مصر والسعودية والإمارات والأردن والضفة الغربية… هو من نوع الجهاد الذي سيمنع أمتنا من تناول مخدرات جديدة تضيع معها أرواح جديدة ودماء جديدة وبلاد جديدة.

تنبهت قبل دقائق إلى مرور ذكرى وفاة الأستاذ الكبير العملاق، ذي القلم اللاهب والعقل الثاقب، ومن كانت له في حياته صولات وجولات عظيمة حفظت لنا أمورا وشؤونا وأحداثا ما كنا لنفهمها لولا أنه كتبها بقلمه.

إنه الأستاذ محمد جلال كشك رحمه الله، وقد توفي بعد سكتة قلبية أصابته في مناظرة مع واحد من حثالات العلمانية في العصر الحديث، وذلك هو نصر حامد أبو زيد.. وكان الأستاذ جلال كشك قد كتب عنه فصلا في كتابه “قراءة في فكر التبعية” مسحه فيه مسحا! فلعل هذا أن يكون من حسن الخاتمة.

يختنق في صدري الكلام عن جلال كشك الذي طوَّح كبير عصره، محمد حسنين هيكل، ولك أن تتخيل الجرأة في أن يتصدى كاتب صحفي مصري لمحمد حسنين هيكل في شدة سطوته وقوته، وأن يكون عصيا على هيكل -الداهية الكبير- الذي استطاع تطويع كثير من الأسماء الكبيرة الرنانة حتى وظفها أو استعملها أو وضعها تحت جناحه، ولكنه فشل تماما مع جلال كشك!

كانت من أمنياتي التوفر على تراث جلال كشك وإصدار أعماله الكاملة، ولكن مع وقوع ثورة يناير ثم الانقلاب العسكري تغيرت الخطط كلها وانقلبت الحياة كلها أيضا.. فلعل شابا باحثا ينشط لهذا فيكسب من ذلك علما غزيرا لنفسه، ثم أجرا كبيرا عند الله وعند الناس.

وسائر كتب جلال كشك مهمة ومفيدة، حتى تلك الكتب الثلاثة التي لم يُوَفَّق فيها وكانت من سقطاته، على أن أحسن كتبه على الإطلاق، فيما أرى، هي: ودخلت الخيل الأزهر، ثورة يوليو الأمريكية، قراءة في فكر التبعية.

وجلال كشك عقل عبقري يكتب بقلم ملتهب، صحافي فيه من العمق والمعرفة بالتاريخ ما يتجاوز به الصحافيين، وله من المعرفة بالتفاصيل ما يتجاوز به المفكرين والمؤرخين، وحتى إسهاماته في الفكر الإسلامي -مع أنه لم يكن متشرعا- فاق فيها كثيرا من فطاحلة أهل العلم، لا سيما في مسائل شائكة عثروا فيها وكان هو -لمعرفته بطبائع الواقع والتاريخ والإنسان- أحسن نظرا وأبعد فهما وأبلغ تفسيرا وتحليلا.. كذلك فإن سلاسة قلمه وحسه الصحافي جعله يصوغ الموضوعات الفلسفية المعقدة بقلم لذيذ سهل فارق فيه غموض الاصطلاح الفلسفي وقارب به عموم القارئين.

لئن كان من شيء وددت لو لم يكن في جلال كشك، فهي حدته التي لم تفرق أحيانا على من يحتد، فتناول بقلمه اللاذع بعض من ينبغي إعذارهم.. وسخرية لاذعة لن يفهمها إلا من كان له علم بالموضوع والحدث الذي يتناوله، فالسخرية بنت وقتها وبنت أهلها.. إذا قيلت لهم فهموها، فأما إذا جاوزها العصر والزمن صارت غير مفهومة وتحتاج إلى شرح لبيان موضع المفارقة والسخرية.

عسى الله أن ييسر الوقت والفرصة لكتابة تفصيلة عنه، ولكم نقلت عنه في مدونتي وقناتي على تليجرام، ولكن لم أكتب عنه سوى مقالين فحسب:

في ذكرى وفاة جلال كشك

جلال كشك والدولة العثمانية

محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى