مقالات

محمد إلهامي يكتب: المعركة الحقيقية هي معركة السلطة

من جميل المعاني ما صاغه الشيخ القرضاوي رحمه الله في هذه الأبيات:

لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاح

وصناعة الأبطال علم في التراث له اتضاح

لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح

في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح

شعب بغير عقيدة ورق تَذَرِّيه الرياح

من خان حي على الصلاة، يخون حي على الكفاح

وقد وقع لبْسٌ لدى بعض الأفاضل أرجو أن أوضحه هنا..

حين أكتب وأطيل وأكرر، أو حين أنقل وأنشر، في أن المعركة الحقيقية هي معركة السلطة، وأنه لا يمكن إحداث تغيير حقيقي في أوضاع أي أمة إلا بإصلاح السلطة.. فإن هذا يكون توضيحا لحقيقة بديهية وقاطعة جرى تغييمها وتشويشها طويلا على يد الأكثرين، بمن في ذلك اتجاهات إسلامية -مصنوعة أو مخترقة أو مهزومة- تريد أن تلتمس لنفسها طريقا سهلا، فإذا هي تزور على الناس دينهم وتزور على نفسها وعليهم حقائق الكون والتاريخ.

كم من طاقات إسلامية هلكت في أودية يقول لهم أصحابها: الحل في تعلم العقيدة، أو في التربية والتزكية، أو في طلب العلم الشرعي..

وبعض هذا حق..

ولكن الذي دخل إليهم وعاش معهم خاض في متاهة كلامية يصارع فيها المعتزلة والجبرية والقدرية والمعطلة، أو في متاهة فقهية وحديثية فكان الذي يصنع مذهبا جديدا أو يقيم للأمة علما جديدا في الجرح والتعديل، أو انتهى إلى حالة روحية شخصية أو جماعية لا أثر لها في الواقع..

أو بالأحرى: كان أثرها الواقعي العملي هو ما استفادته الأنظمة منهم في توظيفهم لصالحها..

فكانوا في النهاية وعلى الحقيقة وبغض النظر عن فهمهم وإدراكهم: طاقة جديدة وقوية في يد الصهاينة والصليبيين.. أو في أحسن الأحوال: طاقة سلبية ومعطلة لتحرر الأمة واستقلالها..

ولهذا تشوشت وتشوهت وغامت وغابت حقيقة من أقوى وأسطع حقائق الدين والدنيا والتاريخ والاجتماع: السلطة هي العامل الأهم والأقوى والأشد في التغيير.. والناس على دين ملوكهم!

هذا ما قد يجعل الكتابة في توضيح هذا المعنى الغائم الغائب ضرورة قصوى وواجبا من أولى واجبات الوقت.

ولكن هذا كله لا يعني إهمال الإعداد الذي يجب أن يتحلى به الخائضون لهذه المعركة.. الإعداد الذي سيحتوي حتما ولا بد على التزكية الروحية والوعي الفكري والقوة العلمية والتماسك الأخوي والترابط الاجتماعي مع الحاضنة… إلخ!.. فضلا عن الإعداد البدني والعسكري والأمني، وسائر ما هو معروف ومطلوب لكل معركة، وكل هذا تحدده طبيعة المكان والزمان والحالة.

ولهذا فإن الذي يقول لك: اتق الله، وابتعد عن المعاصي والذنوب، وجاهد نفسك، واحرص على قيام الليل.. يوزن قوله هذا ضمن مجمل كلامه.. فبعضهم يقوله لك وهو يريد صرفك عن المعركة كلها.. وبعضهم يقوله وهو يريد إعدادك للمعركة نفسها.. فلا يستوي هذا وصاحبه وإن تشابه كلامهما أو حتى تطابق.

فأما الأول فهو يلبس الحق بالباطل، وأما الثاني فهو يُجَلِّي لك صورة الحق كلها.

وها أنت ترى بنفسك في ظل طوفان الأقصى.. كم من الناس يكره إسرائيل ويؤمن بضرورة إنهاء الاحتلال؟! لكن كم منهم صمد وثبت وثابر طويلا طويلًا في إعداد نفسه وأرضه وعدته ورجاله لكي يتمكن من أن ينفذ شيئا مثل طوفان الأقصى؟!!

هذا الإبداع الذي تراه اليوم في غزة هو حصيلة هذا الإعداد الطويل الهادئ الساكن الصموت الصبور.. أسراب تحفر الأنفاق وقتما كان الناس نياما أو لاهين أو يفكرون في تجارتهم ودرجاتهم العلمية ومستقبلهم الوظيفي!

ساعات طويلة مضت في قيام الليل وفي تزكية القلب وفي جهاد النفس وفي تطويع الجسد، لم نكن نعرفها ولا نشعر بها.. هذه هي التي نرى ثمرتها في الشهيد الساجد، والقاصف بالذراع الواحد، والناطق حين الكرب «خذ من دمائنا حتى ترضى»!!

تلك مقامات الإيمان التي ننظر الآن إلى آثارها.. صًنِعت في صيام الصيف وفي محاريب الليل وفي كف النفس عن الشهوات وفي مقاومة الكسل وفي الصبر الطويل الطويلِ الطويل على الطاعات وعلى العمل.. العمل الذي يبدو في لحظتها بل وبعد سنوات من المداومة عليه أنه بلا أثر ولا ثمر!!

هذا النفق الذي نشاهده الآن كم هلكت فيه نفوس وأموال ومجهودات لا نعرفها.. وهذا البطل الذي يخرج منه خارقا حارقا يتقدم حتى الدبابة فيضع عليها العبوة كأنه أسطورة من الأساطير هو ثمرة خطوات من التزكية والتربية والتصفية لا نعرفها.. وهذه العبوة التي تطيح بالدبابة هي ثمرة عقول وأيادي وحسابات ومخاطرات في التهريب والتصنيع لا نعرفها.

القصد والخلاصة:

إننا حين نشير ونكرر إلى أهمية معركة السلطة لا نحذف ولا نهمل أهمية معركة الإعداد النفسي والتربوي والبدني… إلخ!

وإنما نحن في زمن لطالما سادت فيه أكذوبة “كما تكونوا يولى عليكم”، لا يراد بذلك إلا صرف الناس عن الطريق الأصيل الواضح الجلي، وعن الحل الوحيد الحقيقي.. فكان لزاما أن يُقال: بل الناس على دين ملوكهم، وإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وإن ما يهدم الدين هو حكم الأئمة المضلين.

فإذا عُلِم هذا كان مُنَظِّمًا وموجها ومُرَشِّدًا لمسارات التزكية والتربية والعلم والإعداد.. ولم يكن هذا بديلا عن ذلك.

محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى