“حياتان… أمة واحدة”
هكذا يمكن تلخيص مسيرة محمدو بخاري، الرجل الذي ارتدى الزي العسكري يومًا ما ليقود نيجيريا بالقوة، ثم خلع بزته ليعود إلى قصر الرئاسة عبر صناديق الاقتراع. بين الصرامة والانضباط، والشرعية والديمقراطية، تتقاطع حياة بخاري مع تاريخ نيجيريا الحديث بكل ما فيه من صراعات وأحلام وتناقضات.
نشأة عسكرية وصعود مبكر
وُلد محمدو بخاري عام 1942 في ولاية كاتسينا شمال نيجيريا، ونشأ في بيئة محافظة. التحق بالجيش النيجيري في سن مبكرة، وواصل تدريبه في المملكة المتحدة والهند ونيجيريا، ليصبح أحد أبرز أبناء جيل الضباط الذين صنعوا تاريخ نيجيريا السياسي بعد الاستقلال.
في ديسمبر 1983، وفي ظل أزمة اقتصادية واستشراء الفساد، قاد بخاري انقلابًا عسكريًا أطاح بالرئيس المدني شيخو شاجاري، متوليًا الرئاسة على رأس حكومة عسكرية وعدت بالإصلاح والحزم.
رجل الانضباط الحديدي
في سنوات حكمه الأولى، أطلق بخاري برنامجًا شاملاً لمكافحة الفساد وفرض الانضباط على المجتمع والدولة. خفّض نفقات الدولة، شنّ حملات ضد المهربين، ووضع معايير صارمة للمسؤولين. لكن نهجه سرعان ما أثار انتقادات واسعة. فقد فرض قيودًا شديدة على حرية الإعلام والتعبير، واعتقل المعارضين دون محاكمة، مما أكسبه سمعة الزعيم “الاستبدادي”.
ولم يستمر في الحكم طويلًا؛ ففي أغسطس 1985، أُطيح به على يد الجنرال إبراهيم بابانجيدا في انقلاب آخر، ودخل بخاري في عزلة سياسية استمرت عقودًا.
من العزلة إلى الزعامة الديمقراطية
لم يغب بخاري طويلًا عن المشهد العام. ومع بداية الألفية، عاد إلى الحياة السياسية كمرشح ديمقراطي، محاولًا إعادة تقديم نفسه كبديل مدني ملتزم بالإصلاح. وبعد محاولات انتخابية غير ناجحة في أعوام 2003 و2007 و2011، حقق مفاجأة مدوية في 2015 حين فاز بالرئاسة، ليصبح أول زعيم معارض في تاريخ نيجيريا يطيح برئيس حاكم عبر الانتخابات.
في ولايته الأولى، ركز بخاري على مكافحة الفساد وتنويع الاقتصاد، في محاولة لكسر اعتماد نيجيريا المزمن على النفط. دعم الزراعة، وشجع الصناعات الرقمية، وضاعف الإنفاق على البنية التحتية — من الطرق إلى الطاقة.
رئاسة ثانية… بين الإنجاز والأزمات
أُعيد انتخاب بخاري في 2019، لكن الولاية الثانية لم تكن كسابقتها. إذ تدهورت الأوضاع الأمنية بشكل حاد، خاصة في شمال البلاد، حيث تصاعدت هجمات جماعة “بوكو حرام” وظهرت مجموعات مسلحة جديدة. كما اشتدت الانقسامات الطائفية والإثنية، وسط اتهامات له بالفشل في ضمان التوازن والعدالة.
اتهمه معارضوه بمركزية مفرطة للسلطة، واستغلال القضاء لملاحقة الخصوم، وانعدام الشفافية في ملف صحته الشخصية، الذي أثار جدلاً متكرراً بسبب فترات علاجه الغامضة خارج البلاد.
ومع ذلك، يُحسب له أنه حافظ على استقرار اقتصادي نسبي في ظل تقلبات أسعار النفط، وأطلق برامج تنموية واسعة، خاصة في مجالات النقل والطاقة والزراعة.
الرحيل والنهاية
توفي محمدو بخاري في 13 يوليو 2025 عن عمر ناهز 83 عامًا، بعد صراع طويل مع المرض، في وقت كانت نيجيريا تمر بمرحلة انتقالية حساسة. وقد وُصفت جنازته بأنها “جنازة رجل انقسمت حوله الأمة”، إذ اجتمع فيها من رأى فيه “ضميرًا أخلاقيًا صارمًا”، ومن اعتبره تجسيدًا للاستبداد المقنع بثوب مدني.
إرث معقّد
يظل محمدو بخاري شخصية محورية في تاريخ نيجيريا الحديث. جمع بين صرامة العسكري وثقة السياسي، ونجح في الوصول إلى الرئاسة مرتين في نظامين مختلفين. وورثت نيجيريا من عهده مؤسسات أقوى في بعض المجالات، لكنها أيضًا تحملت أعباء التوترات الطائفية، والضعف في ملف حقوق الإنسان، والتحديات الأمنية المستمرة.
في ذاكرة النيجيريين، سيبقى بخاري رجل الانضباط والجدية — الذي حاول أن يُنقذ وطنه كما رآه هو، ولو اختلف معه كثيرون في الطريق.
