بحوث ودراسات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: الأدب الإسلامي (7-الأخيرة)

على مائدة العلم والأدب:

نتحدث في هذه الحلقة الأخيرة من المقال: «الأدب الإسلامي» عن جوانب أخرى مهمة تتعلق بالموضوع:

كان العلماء والأدباء من السلف معًا لنصرة الشريعة

إن اهتمام العلماء منذ القرن الهجري الأول بالفنون الأدبية أمر لا يخفى على المطلع، بينما لا نجد هذا الاهتمام منهم بالأدب في العصر الحاضر، بل إن الأمر وصل إلى درجة وجود فجوة بين علماء الشريعة ورجال الأدب، حتى يكاد معها أن يتهم كل منها الآخر بتعد أو بقصور فهم أو نحو ذلك، بينما نرى أن العلماء والأدباء من السلف يذكرون في نسق واحد في المؤلفات، ومن ذلك ما جاء في كتاب ياقوت الحموي: «إرشاد الأريب إلى معونة الأديب» حيث نجد أطول ترجمة وأحسن ترجمة للإمام المفسر الفقيه المجتهد «الطبري» كما ذكر «الأنباري» وغيرهما من علماء الشريعة مع الأدباء.

فقد كان من علماء السلف من جمعوا الاهتمامات الأدبية مع الاهتمامات الشرعية، منهم أبو عمرو بن العلاء والكسائي، وهما من أصحاب القراءات المعروفة، وقد جمعوا ما بين علم الفقه والتفنن فيه، وعلم القراءات والشريعة.

وكذلك فإن «الكسائي» و«الأخفش» و«الزجاج» ممن كتبوا في معاني القرآن الكريم، وفسروه كانوا من المتخصصين في علوم الشريعة، ومن المتخصصين في علوم اللسان، وهناك أعلام آخرون لهم جهود في مجال اللغة والأدب في الدفاع عن العقيدة ولغة القرآن لصلتهم الوثيقة بعلوم الشريعة، ومنهم: ابن قتيبة، والجاحظ، والمبرد، والقالي، وكم من المحدثين والفقهاء عُرفوا بقوة الطرح وبتميزهم في أبواب الأدب المتنوعة كالإمام الشافعي وابن الجوزي وغيرهما من أعلام العلماء.

فالعلماء والأدباء في العصر الماضي كانوا في خندق واحد نصرة للشريعة ومناوأة لأصحاب العقائد الباطلة من أعداء الإسلام، ومحركًا للناس فيما يقربهم من القرآن والسنة، ثم حدث الخليج بين العلماء والأدباء.

وقد بين الدكتور صالح بن عبد العزيز آل الشيخ سبب حدوث هذا الخليج بين العلماء والأدباء.. مشيرًا إلى ما طرأ على الأدب في أواخر القرن العاشر وما يليه، حيث أضحت القوانين تحجب النظر الصحيح في العقيدة وفي الأدب، وذهب الحس بالجمال، وكان تفنن الأدباء وتكلفهم في البديع والبيان سببًا في ضعف شعرهم وإنتاجهم، لأنهم اهتموا بالمحسنات اللفظية على حساب المعاني، وصار الأدباء يتبارون في أشياء لا يقرها علماء الشريعة مما أدى إلى الانفصال بين العلماء والأدباء.

واستطرد الدكتور مستعرضًا لعلاقة المتشرعة بالأدباء، مشيرًا إلى ما أصاب هذه العلاقة مع ما يسمى بالنهضة الحديثة وحركة الاستشراق، وتأثر أبناء الإسلام من المتغربة في مصر والشام بالمدارس والتيارات الأدبية الغربية، مما زاد الشقة والخلاف بين علماء الشرع وعلماء الأدب، وقد تناسى الطرفان تاريخ الصلة بين المتأدبة والمتشرعة، وحكم الأدباء على علماء الشريعة بأنهم جامدون، وحكم علماء الشريعة على الأدباء بأنهم تحرريون، يريدون إزالة الأمة عن عقيدتها.

فلا بد من إعادة تلك العلاقة الوطيدة بين العلماء والأدباء، لأن ما حققه الأجداد من أمجاد كان بسبب تلك الصلة القوية بين العلماء والأدباء، ولأن هذه الأمة لا يمكن أن تقوى في فنونها وفي حضارتها إلا إذا قويت في أدبياتها المختلفة، ولأن هدف الأدب نصرة لغة القرآن وتقوية شعور هذه الأمة بانتمائها إلى العرب والإسلام، علمًا بأن للأدباء دورهم في تقويم المجتمع، حيث أن فعل الأديب أعظم من فعل الإعلامي، لأن قول الأديب وألفاظه ومعانيه تبقى ولا تذهب.(1)

الحاجة إلى الأدب الإسلامي

للأدب الإسلامي مكانته في القلوب، ومنزلته في التاريخ، وأهميته لقيام حضارة إسلامية كبرى تتجاوب معها سائر جوانب الحياة.

فقد كان الأدب الإسلامي -ولا يزال- المعين الذي لا ينضب، والنور الذي يضيء حياة الإنسانية بالأسلوب الأمثل، والعبارة المقنعة، والعرض الجذاب، وهو الوسيلة الممتعة التي تدخل القلوب وتمس الشغاف، فيتأثر بالأدب من يسمعه ومن يقرؤه، وقد عنيت الدعوة الإسلامية منذ فجرها بالسلاح الأدبي شعرًا ونثرًا وقصة في نشر الفضائل وفي مناهضة الرذائل، وفي الرد على شبهات الأعداء، وفي دفع ما يروجون له أوما يهاجمون به الإسلام.

وقد وعت ذاكرة التاريخ أثر الأدب الإسلامي في الغزوات والمواقع، وفي النهوض بالأمة قدمًا إلى الأمام.

وفي عصرنا الحاضر، أصبحت أمتنا الإسلامية في أمس الحاجة إلى هذا النوع من الأدب، وهو الأدب الإسلامي الأصيل الذي يملأ فراغ الأطفال والشباب والصغار والكبار، حتى لا يمتلئ هذا الفراغ بما يسمى بالأدب، وهو أبعد شيء عن الأدب، لأنه يحمل أساليب التحلل والإباحية، ويعمل على نشر الرذائل، ويتسلل بالأصوات عن طريق الطرب تشبيبًا بالمرأة ووصفًا للمفاتن، وإثارة للكوامن، وإغراقًا في المعاني الهابطة، والصور الخليعة.

ومن خطر التيارات الوافدة التي حملها ما يسمى بالأدب الإباحي أو المكشوف ما يحمله أحياناً من غزو فكري، يتسلل إلى العقول، وما تمطر به الفضائيات الحديثة مجتمعات الأمة ببرامج ومسلسلات وأفلام يتخللها هذا التيار المعادي للأخلاق، والذي يقتل أوقات الأبناء فيما يضر ولا ينفع، وفيما يفرق ولا يجمع..

ومن أجل هذا كله.. كان الأدب الإسلامي – شعرًا ونثرًا – مدعوًّا ليدلي بدلوه في ميدان الدعوة المعاصرة، وفي مواجهة التحديات وملء فراغ الأبناء، فهو الوسيلة الناجحة التي تسعد أبناءنا وشبابنا، وهو السلاح الأقوى لمناهضة التيارات الإباحية والمتحللة.

وفي الأدب الإسلامي -منذ العهد النبوي وإلى يومنا هذا- كنوز نفيسة، وذخائر غالية، تحتاج إلى أن ننفض عنها غبار السنين، وأن نجليها ونحققها، ونشرحها ونوضحها لتقدم إلى أجيالنا وتلبي حاجتهم وتسد فراغهم.

وقد شهدت ساحة الثقافة والأدب في عصرنا هذا أدبًا إسلاميًّا راقيًا، يأخذ بمجامع القلوب، ويهذب النفوس، ويدفع إلى الفضائل ويقاوم الرذائل، ويحمل الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.

ومما يبشر أمتنا بالخير والإصلاح والنهضة الإيمانية والنجاح أن تحمل رابطة الأدب الإسلامي العالمية هذه المسؤولية المصيرية متضامنة مع مؤسساتنا الإسلامية في كل مكان ساعية لنصرة دينها وقيمها ومبادئها.

إن في الأدب الإسلامي صياغة للوجدان المؤمن، وإثارة لعاطفة البر والخير، وحثًّا على صنائع المعروف.

إنه في الجهاد سلاح، وفي السلم نور، وفي الغربة رفيق، وفي الوحدة صديق، إن في الأدب الإسلامي -شعرًا ونثرًا- حماية للغة الضاد التي هي وعاء القرآن الكريم والحديث الشريف، وأحكام هذا الدين.

ولقد كان الحكماء والخلفاء والأئمة والزهاد يحثون على تعلم وحفظ الشعر، لأنه ديوان العرب، اشتمل على مآثرهم وقيمهم، وكان للرسول – صلوات الله وسلامه عليه – شعراء منهم حسان بن ثابت، وكان يقول له: «قل وروح القدس يؤيدك»، حين كأن يرد على أعداء الإسلام وعلى الكفار الذين يهجون الإسلام.

وامتاز الشعر في المناخ الإسلامي بالحكمة التي كان ينطق بها الشعراء الحكماء، وكان من الأئمة والمحدثين شعراء مثل الإمام الشافعي والإمام السبكي، والإمام ابن حجر وغيرهم.

وأسلاف هؤلاء الأئمة من الصحابة الذين نافحوا عن الإسلام وأمثالهم هم المقصودون بالاستثناء المذكور في الآية الكريمة: {والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا كثيرا والتصورات مما بعد ما ظلموا} (الشعراء:224). (2)

الهوامش:

(١) مستفاد بتعديل من محاضرة – للدكتور صالح بن عبد العزيز آل الشيخ – نشرت في جريدة «الندوة» المكية، 9 شعبان 1421ھ ۔

(٢) مجلة الأدب الإسلامي: 32.

(السبت: 27 من جمادى الأولى 1446 ھ = 30 من نوفمبر 2024 م)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights