بحوث ودراسات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: الأدب الإسلامي (١)

على مائدة العلم والأدب:

محمد نعمان الدين الندوي

[استعرضت في هذا المقال جوانب مهمة تتعلق بـ: «الأدب الإسلامي»، واستفدت في إعداد المقال من المصادر القديمة والجديدة، ومن دراسات مختصة بالموضوع، نشرت في الجرائد والمجلات الصادرة عن البلدان العربية].

أهمية الأدب الإسلامي:

للأدب الإسلامي مكانته في القلوب، ومنزلته في التاريخ، فهو «مفخرة» الأمة التي تباهي به الأممَ الأخرى، إنه يتشرف بانتسابه إلى الدين الحنيف الذي أكمل به ربنا دينه وأتم نعمته، ويمثل الشجرة الطيبة المباركة، ذات الأصول الثابتة المتجذرة في أرض خصبة قوامها الثقافة الإسلامية، وغذاؤها الكلم الطيب من القرآن والسنة النبوية المطهرة، وبالتالي فإن هذه الشجرة تؤتي ثمارها بإذن ربها يانعة، وحق لنا -نحن الأبناء الشرعيين لهذا الدين القويم- أن نسارع إلى قطف هذه الثمار لتكون عونًا لنا على مواجهة التحديات الحضارية والصراعات السياسية والفكرية دون أن نعلن انقيادنا لهذا الغزو الفكري.

الشرف الأعظم للأدب الإسلامي:

يكفي الأدب الإسلامي عظمة وفخرًا وشرفًا أن أفصح وأبلغ من نطق على الإطلاق سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم اعتز بأن ربه علّمه الأدب فأحسن تأديبه، ففي رواية للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه – أي نبي الله – كان في عام الوفود يخاطب كل قوم من العرب بلغتهم ولهجتهم، فتعجب على من ذلك، فسأل الرسول الكريم: يا رسول الله! أراك تخاطب كل قوم بلغتهم أو لهجتهم، فمن أدبك؟ فقال النبيؐ: «أدبني ربي فأحسن تأديبي».

وقد حث الرسول ﷺ نفسه الوالدين على تعليم أبنائهم الأدب، فقال:

«ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن».

القرآن الكريم أرسى دعائم الأدب الإسلامي:

فرسول الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام اعتز بالأدب، ودعا إليه تعلمًا وتعليمًا، والقرآن الكريم هو الذي أرسى دعائم الأدب الإسلامي، وثبت أركانه ليس في حالات المد الإسلامي فقط، بل أيضا عند ما تهاوت ثوابت كثيرة بسبب الوهن الذي أصاب الأمة.

الأدب الإسلامي ليس أمراً جديدًا:

فالأدب الإسلامي ليس بدعًا من الأمر، ولا أمرًا جديدًا ظهر أخيرًا، فقد كان ظهر الأدب الإسلامي بمجرد ظهور الدعوة الإسلامية، فلا ندري لماذا هذا الصياح والعويل على مصطلح «الأدب الإسلامي»؟ إذا كان قد عرف في مطلع مجيء الإسلام، ورحب به نبي الإسلام، ومارسه العديد من الصحابة خاصة الشعراء منهم.

الأدب الإسلامي سبقته إرهاصات في الجاهلية:

بل سبقت الأدبَ الإسلامي إرهاصاتٌ بشرت به قبل ظهوره، فقد كانت أشعار عنترة بن شداد، وزهير بن أبي سلمى، وقس بن ساعدة، وبعض معاصريهم بمثابة مقدمات لتهيء الساحة الأديبة لهذا الوافد المرتقب، وإن لم يكن الأمر كذلك، فكيف نفسر قول زهير ؟!:

ومن يجعل المعروف من دون عرضه

…. ومن لا يتق الشتم يشتم

ومن يك ذا فضل ويبخل بفضله

على قومه يستغن عنه ويذمم

و من هاب أسباب المنايا ينلنه

وإن يرق أسباب السماء بسلم

وكذلك قول عنترة بن شداد:

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي

حتى يواري جارتي مأواها

وما كانت سوق عكاظ إلا بوتقة انصهرت فيها الإبداعات الأدبية. (١)

والرسول ﷺ نفسه أشاد ببعض الشعر الجاهلي الذي كان يتصف بالحكمة والهدف النبيل والصدق، فيروى عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله يومًا، فقال لي هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت ؟ قلت نعم يا رسول الله ! فقال: هيه، أنشدني وأسمعني منه، قال: فأنشدته بيتًا، فقال: هيه، أي زدني منه قال: فأنشدته بيتًا، وهو يقول: هيه، حتى أنشدته مائة بيت، فقال: هذا رجل آمن لسانه وكفر قلبه، كما أشاد النبي ﷺ ببعض شعر لبيد قائلًا: أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكل شيء لا محالة زائل

لماذا لم يرد مصطلح «الأدب الإسلامي» في التراث؟

ينشأ سؤال: مادام الأدب الإسلامي ليس أمرًا جديدًا، فلماذا لم يرد هذا المصطلح في التراث؟ والجواب أن الإسلام كان دائمًا هو الآمر الناهي، وكان المرجعية الفكرية للأمة، ومن خرج على قيمه من الشعراء عُد خروجه استهتارًا وعبثًا، وربما «تملحًا» عند قوم، ولكنه لم يكن أبدًا خروجًا فلسفيًّا أيديولوجيًا ممنهجًا، كما يحصل الآن في كثير من الأدب العربي الحديث، الذي أصبح الانحراف العقدي والتجرؤ على الإسلام والأديان جميعها بل على الذات الإلهية نفسها، وعلى الأخلاق والقيم واللغة العربية وجميع الثوابت، من السمات التي لا تخطئها عين باحث يهمه ذلك.

ومن العجب.. بل من العيب أن يقال إن مصطلح «الأدب الإسلامي» «مضحكة»،

وعندئذ فإن جميع المصطلحات الحديثة التي لم تكن متداولة -لغويًا- من قبل، من مثل: «الاقتصاد الإسلامي» و«علم الاجتماع الإسلامي» و«علم النفس الإسلامي» وما شاكل ذلك، هي -على القياس- «مضحكة»!

إن الأدب الإسلامي مصطلح حديث لمفهوم فكري أصيل متجذر – إبداعًا ونقدًا – في أدبنا العربي منذ مجيء الإسلام حتى الآن، وكونه لم يستعمل بهذا: ” التعبير اللفظي ” ليس حجة لا عقلية ولا شرعية على أنه مبتدع، ولو احتكمنا إلى ذلك، لكان ينبغي الكف عن إيراد مئات المسميات والمصطلحات التي لم يستعملها من كان قبلنا، ثم إن المذاهب الأدبية النقدية التي ربطت الأدب بفلسفة أو عقيدة لا حصر لها، ولم نسمع يومًا أن قيامة أحد من النقاد قامت احتجاجًا على ذلك، كما تقوم اليوم قيامة بعض النقاد عند الدعوة – ونحن أمة الإسلام – لربط الأدب بالدين والأخلاق.

لماذا أهو جهل أم تجاهل، أم سوء نية، أم خوف من عصا الحداثيين المسلطة على ظهر من يريد الخروج بالأدب عن جادة العبث، أم هو من باب “ادعاء العصرنة” التي زين لقوم أنها لا تقوم إلا على النيل من عقيدة الأمة وثوابتها؟؟ (٢)

بل المصطلح قائم منذ مجيء الإسلام:

بل يزعم الأستاذ الأديب وليد قصاب أن مصطلح “الأدب الإسلامي” لم يخترع حديثًا بل هو قائم وموجود، ولد مع نزول القرآن الكريم، فقد قسم الشعراء إلى قسمين: شعراء مؤمنين، وآخرين: غاوين، والكلمة إلى كلمتين: كلمة طيبة وكلمة خبيثة، وإن الأدب الإسلامي يعبر عن عقيدة الأمة وذاكرتها وذوقها الفني واللغوي، فلماذا الاعتراض على التسمية؟ (٣)

الحاجة إلى طرح «الأدب الإسلامي» بهذا المسمى الصريح:

والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما الحاجة إلى طرح «الأدب الإسلامي» بهذا المسمى الصريح؟ فيجيب عنه الدكتور عبد القدوس أبو صالح قائلًا:

نعم! هناك ضرورات عدة، تتمثل أولاها في ضرورة مواجهة محاولات الغزو الفكري والثقافي من جانب الماديين والعلمانيين للثقافة الإسلامية والأدب الإسلامي، والوقوف بقوة وحسم في وجه هذه المحاولات.

وتتمثل ثانيتها: في ضرورة تواصل الأدب الإسلامي، وربط عصوره الماضية الزاهرة بعصرنا الحاضر المتأزم.

 والثالثة: تتمثل في ضرورة الاهتمام بآداب الجمهوريات الإسلامية المستقلة حديثًا في آسيا الوسطى، ومحاولة ربطها بآداب دينها وأمتها بعد طول فراق، والعمل على تناغمها مع سائر آداب اللغات الإسلامية الأخرى.

وأما الرابعة: فهو العمل الجاد على التوصل إلى إجابات شافية وردود وافية على كل من تقول أو أشاع شيئا بغير حق على الأدب الإسلامي، أو جهل بمفهومه وأدبيته وموقعه من الثقافة الإسلامية وموقفه من النظريات الأدبية والتيارات الفكرية المعاصرة، القادمة إلينا من الشرق والغرب من المستشرقين والمستغربين على السواء. (٤)

الالتزام لا يقيد حركة الأديب:

من الشبهات المثارة ضد «إسلامية الأدب» أن الالتزام يقيد حركة الأديب، فهذا الاعتراض – هو الآخر – ليس بصحيح، لأنه ليس في أخلاقية الأدب الإسلامي ما يقيد حركة الأدباء، ولا ما يعوق انطلاقهم، ولا ما يكبل خيالهم، وإذا كان الإسلام لم يكره شاعرًا أو أديبًا على أن يكون ملتزمًا بالحق والخير، فما ينبغي أن نصادر حق الإسلام في أن يقبل ويرفض ويستحسن ويستقبح خاصة.. أن الإسلام دين ونظام حياة يعنيه أن يتحقق الانسجام بين كل مناحي النشاط الإنساني.

وليس في هذا مصادرة لحرية الشاعر والأديب كما يشاع، والإسلام لا يقول للشاعر: اكتب في موضوع كذا، وقل فيه كذا وكذا، ولا تكتب في موضوع كذا، ولكن للمبدع مطلق الحرية في أن يتناول ما يشاء من الجزئيات في النفس والحياة والكون والطبيعة، ثم بعد ذلك قد يستقبح كلامه، وقد يستحسن دون أن يكون هناك حساب أو عقاب.

فعمر بن الخطاب سجن الحطيئة، ولكن هذا لم يكن عقوبة على الشعر، وإنما كان حماية لأعراض المسلمين وحرماتهم، فالمعروف أن عمر خليفة للمسلمين، وكان فعله هذا حماية لأعراضهم من هجاء الحطيئة، ولم يسجنه إلا بعد أن تلمس له المخارج التي تحميه من الإدانة!

وكذلك كان عمر بن عبد العزيز يحمي نساء المسلمين من لسان الأحوص وابن أبي ربيعة…، على أن هذه الحوادث لم تكن كثيرة في تاريخ الإسلام برغم قلة الالتزام من الشعراء، بل إن الشعراء كانوا يجدون من يدافع عنهم، إذا لمح البعض في شعرهم ما يخالف عقيدة أو يصادم خلقا.

المهم أننا نؤكد أن الالتزام ليس نقيضًا للحرية، والرقابة الموجودة الآن في كل المجتمعات -تقريبًا- ليست قيدًا على الحرية،

وليست حجرًا على الإبداع، فالحرية والالتزام أمران مؤتلفان، وليسا نقيضين متنافرين، والحرية المطلقة هي الفوضى بعينها، فما جاء الإسلام إلا ليحرر الإنسان من كل أشكال العبودية،

ويجعلها خالصة لله وحده، وإذا وصل إلى هذه الحرية، وضع نفسه على طريق الالتزام طائعًا مختارًا، وهذا هو الالتزام الصحيح. (٥)

الرد على التهمة: بأن الأدب الإسلامي أدب فكرة ومضمون على حساب الفن

هذه – أيضًا – تهمة باطلة في الواقع، لأن الاهتمام بالمضمون أمر لا بد منه، ويتوازى معه التصوير البارع واللفظة الآسرة والتعبير الجميل،

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله:

«إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحكمة»، والحكمة تعني المضمون، والسحر يعني التصوير والتعبير، وذلك مجتمعًا يمثل صورة الأدب الحي.

الهوامش:

(١) جريدة: (العالم الإسلامي) مكة المكرمة، ٢ ربيع الثاني ١٤٢٤ھ ۔

(٢) بتعديل من مقال للدكتور وليد قصاب، نشر في مجلة (اليمامة)، ٢٤ أبريل ٢٠٠٤م.

(٣) مجلة (المجتمع)، ٢٦ ربيع الأول ١٤٢٥ھ ۔

(٤) مجلة: (المجتمع)، ٢٨ جمادى الثانية ١٤٢٥ھ ۔

(٥) جريدة (العالم الإسلامي): ٢٧ أكتوبر ٢٠٠٠م.

(ليلة السبت ٢٩ من ربيع الثاني ١٤٤٦ھ – ١ من نوفمبر ٢٠٢٤م )

(يتبع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى