ما العبادة إلا تجسيد الخضوع والتذلل، والتعبير العمليّ الناطق عن الانقياد والاستسلام لله رب العالمين، والانطراحِ على عتبته، والتسليمِ بعظمته وكبريائه، واعتراف صاحبها – العابد – بعجزه وضعفه، وحقارته وضآلته، والإظهار الصادق المتواضع لحبه لخالقه ورازقه.
يَجمع هذا التصورُ العباداتِ كلّها جملة، على أن كل عبادة لها مميزاتها الخاصة.. ومشخصاتها المعينة..
ولكن عبادة الحج لها شأن فريد وأمر عجيب.. وخصوصية متميزة.. وطعم لذيذ خاص لا يتذوقه إلا أصحاب القلوب والعاطفة والشعور…
فالحج كله من أوله إلى آخره عبارة عن الحب والحنان، والغرام والهيام..
إنه مثل أعلى للطاعة والخضوع للخالق المعبود جل وعلا..
إنه استجابة عامة للنداء الإبراهيمي الخليلي الذي كان دوّى في أرجاء الكون كله قبل آلاف السنوات، تنفيذًا لأمر الرب جل وعلا: { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق }.
ولعل أمرًا إلهيًّا آخر لم يكن له من الاستجابة والقبول – كمًّا وكيفًا – ما قدر لهذا: [ الأمر بالإعلان بالحج] الذي سعد بتنفيذه خليل الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة و السلام..
ولما أعجب اللهَ تعالى مما كان من أعمال إبراهيم وابنه اسماعيل الصادرة عن غاية من عواطف الحب والفداء والاستسلام لأوامر الرب، وكذلك من عمل زوج إبراهيم، الذي حرّك رحمةَ الله، ففجرت نبعًا صافيًا مباركًا خالدًا من الماء..
أقول لما أعجب اللهَ تعالى ما أعجب من هذه الأعمال الخالصة الممحضة له، جعلها من أركان فريضة الحج، الذي لا يكتمل إلا بالقيام بها.
فما الأضاحي والرمي والسعي إلا تذكيرًا بقداسة أعمال وتضحيات هذه الأسرة الإبراهيمية الخليليلة، وما مشروعيتها إلا دلالة على ما حظيت به من شرف القبول والرضا من الله تعالى.
ولعل قائلًا – من قاصري النظر من ذوي الفهم السطحي والإدراك السقيم – يقول: ما الفائدة من هذا التعب والنصب والسعي والكد والكدح والرمي والرمل ورفع الصوت وصب الدم، والمبيت في العراء، والذهاب من هنا إلى هناك، والتسكع بين الجبال والوديان، والسهوب والفلوات..
فيظن المسكينُ كلَّ ذلك عبثًا.. وعملًا بلا طائل..
لا يظن ذلك إلا ذو العقل البحت أو العقيدة المريضة.. أو العاري من عاطفة الحب والغرام..
الحج يا عباد الله ! تمثيل لدور المحب الهيمان الولهان..الذي لا يهمه إلا إرضاء المحبوب.. والتقرب إليه، بكل ما من شأنه الحصول على رضا محبوبه واستلفات نظره واستحقاق عنايته.
فلا دخل للعقل بين المحب وحبيبه.. وعالمُ الحب له آدابه وأحكامه، وله حساسيته وحرمته وضريبته كذلك.. ولا تحكمه الروتينيات، ولا تقيده الضوابط الجافة من القوانين والأعراف..
إنه – عالمُ الحب – ما وراء العقل والفلسفات..
إذا أمر الحبيبُ محبه بشيء.. نفذه دونما تأخير أو تردد.. ولا يسأله: لم أمرتني به.. وكيف تُحَمّلني ما لا طاقة لي به، أو لا يقبله عقلي.. ؟
فلا يتجاوز المحب ما يأمر به حبيبُه وينهى عنه، ولا يجعل لنفسه إرادة أو رأيًا مع حبيبه، فرضاه في رضاه.
إنه يعتبر أكبر سعادة له أن يحظى بحب حبيبه، ولا يفكر أبدًا في كون أمره موافقًا للعقل، أو معارضًا له..
إنه من لحظة يتلقى فيها أمرَ حبيبه، يجعل تنفيذه نصب عينيه.. ولا يألو جهدًا في تحقيق رغبة حبيبه، مهما كلفته من التعب والألم ما يكلفه.. ولا يبالي بذلك على الإطلاق.. بل يجد لذة خاصة في الألم الذي يصيبه في سبيل إرضاء حبيبه..
وحتى الأمر هو ليس وحده الذي يكون واجب التنفيذ ومحل الاحترام والتقدير في شريعة الحب.. بل الإشارات والتلميحات والإيحاءات – من المحبوب – هي الأخرى تحمل عند المحب نفس الأهمية والتقدير ما يكون للأوامر الصريحةِ الدلالة، الواضحة المعاني..
الحج اتصال مباشر – بدون الوسائط والحواجز من البحار والجبال والسهوب والصحاري – بمعالم النبوة، وفرصة سانحة للمسلم ليقر عينه برؤية الأمكنة الطاهرة التي تشرفت بآخر اتصال للسماء بالأرض.. والتي كان ينزل فيها جبريل على النبي الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالوحي من الله تعالى.
فهناك: ( مكة المكرمة ) مولد خاتم الأنبياء، ومشرق نور الإسلام، ومنبع الإلهام، ومسرح الأحلام.. وفيها: ( غار حراء ) مهبط جبريل، ومكان بداية التنزيل، ومبعث هادي الإنسانية، ومنبت العاطفة، ومنشأ الدين، وفيها: ( غار ثور ) منطلق العز والكرامة، وبداية النهاية، ومطلع فجر جديد، وفيها: ( دار الأرقم ) أول مركز إسلامي للتعليم والتربية، والتضحية والفداء والوفاء، وهناك: ( بئر ماء زمزم ) أثر خالد للتضحية والحب والفداء، و هناك: ( مقام إبراهيم ) ذلك الشاهد الحي على الإيمان والتضحيات العظيمة التي قدمها الأنبياء في بناء وتأسيس شعائر الله.
وفوق ذلك كله… وأكبر وأعظم وأقدس منها جميعًا.. هناك: ( بيت الله ) أكبر رمز للطهر والقداسة، وأجل محط للبركة والهداية، وأعظم مظهر للتجليات الإلهية.. { أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا و هدى للعالمين }.
ثم هناك: « المدينة المنورة » موئل الرسالة وعاصمة الإسلام الأولى.. تلك المدينة التي تشرفت بالرسول صلى الله عليه وسلم مرتين.. مرة في حياته – صلى الله عليه وسلم -، ومرة بجسده المبارك في ثراها الطاهر..
والحقيقة أن في كل بقعة من تلك البقاع الطاهرة، أثرًا للتضحية، ورمزًا للبطولة، ومهبطًا للوحي، وموضعًا لنزول الخير والبركة، ودلالة على الهدى والتقى..
وهي كلها – البقاع الطاهرة – مكان الإلهام والإيحاء.. والتذكير والتذكر، والإثارة والتجديد.
فإقامة الحاج في تلك الرحاب الطاهرة تجدد في مخيلته ذكريات عطرة، ذكريات تضحيات إبراهيم، وابنه إسماعيل، وأمه هاجر، ورؤيتُه – الحاج – بئرَ زمزم، تُذَكِّره بسعي هاجر بين الصفا والمروة بحثًا عن الماء، وتَفجّرِ ماء زمزم، التي أنقذ الله بها إسماعيل وأمه.
كما تُعيد إلى مخيلته ذكريات من حياة النبي صلى الله عليه وسلم..
ذكريات ما قبل الهجرة.. وهي ذكريات مؤلمة محزنة مرة تجرح الفؤاد..
وتتجد – كذلك – ذكرياتُ ما بعد الفتح.. حينما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة المكرمةَ فاتحًا عزيزًا منصورًا.. وهي – طبعًا – ذكريات حلوة تبهج الروح، وتفجر الخواطر وتلهم الأفكار، وتُفيض مشاعر الاعتزاز والغلبة والانتصار، وتنعش الآمال، وتقضي على القنوط والإحباط، وتزيد المسلم إيمانًا على إيمان بأن النصر لآتٍ مهما كانت الظروف قاسية حرجة، والصبح سينبلج لا محالة – بإذن الله – مهما طال الليل وساد الظلام، وأن المستقبل للإسلام إن شاء الله !
كما أن رحلة الحج تتيح للحاج فرصة مُشَرّفة، فرصة لا يمكن أن يسعد بها في غير هذه البقاع الطاهرة، وهي أنه يمشي حيث مشى خليل الرحمان إبراهيم وأسرته المباركة، ويقف حيث وقف النبي وصحابته وتابعوهم وغيرهم من الخلفاء الراشدين ومئات الآلاف من أعلام علماء الأمة وجهابذتها وقادتها وزعمائها في جميع العصور.
والحقيقة أن رؤية أرض النبوة، وشرف الإقامة فيها يريح الروح، ويفجر القريحة، ويلهم الزائر بحرًا من الخواطر والأفكار، ويمنحه فرحة عجيبة، و يقوي إيمانه، ويربطه بالمنابع الأولى من دينه وعقيدته ربطًا روحيًّا أوثق وأعمق وأقوى مما كان قبل أن ينزل هذه الرحاب الطاهرة، ويرى فيها ما رأى…
كما تتجلى في الحج ميزة أخرى عظيمة – من مزايا الإسلام – أروع وأوضح ما تكون.. وهي ميزة انعدام الفروق من الجنسيات والهويات والعروق والألوان.. فتتجلى المساواة في أجمل صورها وأبهاها، فكل يقف موقفًا واحدًا، ويلبس لباسًا واحدًا، ويصدع بكلمة واحدة.. فلا رئيس ولا مرؤوس.. ولا سيد ولا مملوك.. ولا خادم ولا مخدوم.. ولا ملك ولا رعية.. كلهم سواسية كأسنان المشط.. متحدو الغاية والهدف..
في الحقيقة الحج يمثل أكبر وأطهر وأروع تجمع إنساني حاشد على وجه الأرض..
كما هو – الحج – في نفس الوقت – أكبر مؤتمر إسلامي، يشارك فيه مئات الآلاف ممن يمثلون مليار ونصف من أصحاب: « لا إله إلا الله محمد رسول الله ».
يا ليت قادة المسلمين وزعماءهم يهتبلون هذه الفرصة السنوية للنظر في أمور المسلمين ومعالجة قضاياهم وحل مشاكلهم.
ارى أن تُختار صفوة من أهل العلم والفضل، والأثر والنفوذ من حجاج كل بلد من بلدان العالم الإسلامي، وتعقد لهم جلسات واجتماعات مشتركة في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة، يتشاورون فيها في أمور المسلمين، ويحاولون أن يتفقوا على قضايا المسلمين الشرعية وغيرها بقدر الإمكان، ويتوصلوا إلى حلول موحدة لمسائلهم، ويضيقوا مساحة الخلاف، ويُظهروا أكبر قدر ممكن من التسامح والتعاطف والتضامن في مختلف المسائل والقضايا.
وليكن كل ذلك بروح من المحبة والإخلاص وحب الخير للإسلام والمسلمين..
ويكون اجتماع صفوة المسلمين – من الحجاج – وتشاورهم هذا في إطار قوله تعالى: { ليشهدوا منافع لهم }.
أرجو أن هذا الاقتراح – النابع من حب الخير للمسلمين – يكون محل اهتمام وعناية من أولي الأمر من المسلمين.
و أخيرًا لي همسات إلى إخواني الحجاج الكرام الذين شرفهم – أو يشرفهم – الله تعالى بهذا الشرف العظيم، شرف الحج.. أن يحمدوا الله تعالى ويشكروه على ما من به عليهم من الحج إلى بيت الله الحرام، والشكر يتمثل في أن يؤدوا هذا الحج كما ينبغي بل يجب أن يؤدى.. يؤدوه بنفس الروح والعاطفة التي كان يؤدي بها السلف رحمهم الله..
ليحرص إخواننا الحجاج الكرام على أن يقوموا بأداء هذه الفريضة بكل آدابها وشروطها.. وعلى أن يستفيدوا من كل دقيقة من دقائق إقامتهم في تلك الرحاب الطاهرة، ويسكبوا عبرات الندم، ويتوبوا إلى الله توبة نصوحًا، وليحاولوا أن يرجعوا مغفورة لهم ذنوبهم، طاهرين من المعاصي والآثام، مصممين على قضاء حياة جديدة تختلف كل الاختلاف عن سابقتها.. حياة مصبوغة كلها بصبغة الله.
في الآونة الأخيرة فقد الحج كثيرًا من خصائصه ومزاياه، فلم يعد الحج حجًّا كما يجب أن يكون..
لقد صار الحج – للأسف – يؤدى ولا يُبتغى به وجهُ الله.. بل يؤدى لأغراض شتى لا صلة لها بما شرع له الحج..
فليحذر إخواننا الححاج من أن لا يبطل حجهم، أو ينقص أجره لسبب من الأسباب..
فلا يكن حجهم للسياحة أو النزهة أو الشهرة أو لمآرب أخرى من غير ما فرض له الحج…
ليكن الحج حجًّا قرآنيًّا محمديًّا.. باقيًا على روحه الإبراهيمية وخصائصه الإسلامية.. كاملًا مكتملًا بصفاته وسماته، بأهدافه ومقاصده، بنتائجه وآثاره.
أيها الحجاج ! ارحموا أنفسكم وارحموا الحج أيضًا..
لا تظلموا أنفسكم ولا تظلموا الحج أيضًا..
لا تحجوا ليقال لكم: حجاج..
ولا تحجوا وأنتم تريدون السياحة أو الترويح أو تغيير بيئة ببيئة..
حجوا لتزودوا من التقوى.. لتشحنوا بطارية قلوبكم بالأجواء الإيمانية والنفحات المباركة التي تهب هناك.. في ظلال الكعبة وفيما حولها.. بآهاتكم وتضرعاتكم، وعبراتكم تفيضونها عند الملتزم ومقام إبراهيم وعلى جبل الرحمة، وفي جميع مواقف الحج..
الحج عج وثج، وسعي وكدح، وتوبة واستغفار، ودموع وعبرات، ودعوات وابتهالات، واستبدال حياة بحياة، واتصال مبارك مباشر بأرض النبوة ومهبط الوحي، وشرفُ المشي على موطىء أقدام أفضل البشر المباركة، التي يستحق غبارها أن يُجعل كحلًا لعين كل مسلم..
فلا تستهينوا بالحج أيها الحجاج الكرام.. ولا تنتهكوا حرمته، بل اقدروه حق قدره، واحتفظوا بروحه ومنهجه، وعظموا شعائر الله، ومن يعظم شعائر الله، فإنها من تقوى القلوب.
(السبت: ٢٥ من ذي القعدة ١٤٤٦ھ = ٢٤ من مايو – أيار – ٢٠٢٥م )