محمد نعمان الدين الندوي يكتب: وانتهت إليه رئاسة النبلاء!
لعل البعض من القراء يستغربون التعبير الذي جعلته عنوانًا للمقال، لأن التعبير السائد المعروف: «انتهت إليه رئاسة المحدثين» أو: «رئاسة الفقهاء» وما إلى ذلك!
لكنني تعمدت اختيار هذا التعبير… إذ لم أجد أروع منه ولا أوفى بوصف صاحبنا الكريم – الذي أريد أن أتحدث عن إحدى خصائصه في هذه السطور -، وهي النبل والمروءة..
فقد كان صاحبنا -بحق- خاتم النبلاء الشرفاء، وانتهت إليه مكارم الكرماء..
والله.. لو حلف أحد ممن رآه أنه لم ير في حياته أنبل منه ولا أكرم.. لم يحنث:
حلف الزمان ليأتين بمثله
حنثت يمينك يا زمان فكفر!
لقد كان صاحبنا -عليه رحمات الله- عجنت طينته بالنبل، ورضع بلبان النبل، وتغذى بالنبل، وعاش بالنبل، وله، وفيه، فلو كان للنبل والفضل والمروءة صورة.. لكان صاحبنا تلك الصورةَ.. فالنبل كان لحمتَه وسداه، وروحَ حياته، وحياةَ روحه، فكأنه كان فطر من طينة نقيّة ممتازة غير الطينة التي يفطر منها الناس عادة..
يقول أحد تلامذته -ممن شرفه الله بالإقامة الطويلة في مكة المكرمة- وعاشره في خلوته وجلوته، ورافقه في سفره وحضره، ورأى معاملاته -عشرات السنينـ مع الناس عن كثب، يقول حالفًا: «لم أسمع منه قط في حياتي تجريحًا لأحد، أو رتعًا في لحم شخص»، وقال عنه أكبر عالم عربي معاصر: «لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق».
كما يصدق عليه -تمامًا- ما قاله أحمد أمين في أستاذه -وهو علي بك فوزي- قال: «لئن كان أكثر الناس نسخًا متشابهة من كتاب تافه مطبوع، فقد كان علي بك فوزي نسخة خطية من كتاب قيم نادر». (فيض الخاطر: ٢٣٧/١).
كان يظن كل من كان قريبًا من صاحبنا أنه الأحب إليه، والأحظى بخالص مودته دون غيره، والأقرب إليه من جميع الناس، وذلك لِما كان يُمَحِّضُه ويوْلِيه من الحب والإخلاص والسلوك النبيل أكثر مما يولي امرؤ أخاه.
ولو قلنا: إن النبل -بنفسه- كان يعتز به، ويزدان بانتمائه إليه، والشرف -ذاته- كان يتشرف به، ويزهو بانتسابه إليه، والمروءة -هي الأخرى- كانت تتغذى من عراقة منبته وأصالة معدنه، والسماحة -أيضًا- كانت تتقوى من كرم يده، وفيض عطائه، والأخلاقُ -نفسها- كانت تستمد غذاءها من طيب سجيته ونجابة طرفيه، لَمَا رُمِينا بالغلو في وصف صاحبنا:
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
إن الجائزة -أحيانا- يرفع قيمتها -المعنوية- الرجلُ الذي يعطاها، فهي -الجائزة- تعتز بحاملها أكثر من أن يعتز -هو- بها.. وذلك حدث -فعلًا- حينما منح صاحبنا جوائز عالمية رفيعة القدر، قالوا -وصحّ ما قالوا- تشرفت الجوائز به وارتفعت مكانتها بترشيحه لها.
لقد كان صاحبنا الجليل يجمع من صفات الخير جمعًا قلَّ ـبل ندَر- مثله في غيره ممن نعرفه من الأعلام المعاصرين الآخرين بدون انتقاص لشأنهم أو الحط من مكانتهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم..
ولا عجب في ذلك، فالشيء من معدنه لا يستغرب، فقد كان يرتفع نسبه إلى تلك العترة الطاهرة المباركة، التي قال الشاعر العربي المشهور الفرزدق (ت: ١١٠ هـ) عن أحد أفرادها المباركين قصيدة تاريخية معروفة عصماء، لو تمثلنا ببعض أبياتها، ونحن نتحدث عن صاحبنا الشريف، لما خفنا أن نُعَدّ من المبالغين، يقول الشاعر:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقي النقي الطاهر العلم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره
يزينه اثنان حسن الخلق والشيم
منشقة من رسول الله نبعته
طابت عناصره والخيم والشيم
ما قال: لا قط إلا في تشهده
لو لا التشهد كانت لاؤه نعم
نعم! ما رأينا صاحبنا الكريم يُخيّب طالب شفاعة، أو وساطة، أو مساعدة، بل كان يتكرم بذلك لأدنى إشارة:
وإذا طلبت إلى كريم حاجة
فلقاؤه يكفيك والتسليم
ولم يره الناس يرد سائلًا، ولعله لم يكن قادرًا على ذلك:
لو قيل للعباس يا ابن محمد
قل: لا – وأنت مخلد – ما قالها
ما إن أعد من المكارم خصلة
إلا وجدتك عمها أو خالها
وإذا الملوك تسايروا في بلدة
كانوا كواكبها وكنت هلالها
إن المكارم لم تزل معقولة
حتى حللت براحتيك عقالها
ولنبله -طيب الله ثراه- وكرمه، وحرصه -البالغ منتهاه- على نفع الناس، وبما قدمه من خدمات عظيمة للأمة، أجمعت القلوب على حبه في مشارق الأرض ومغاربها حبًا لم تجتمع على مثله لأحدٍ غيرِه في الآونة الأخيرة، وقد تجلى هذا الحب بصورة أوضح بعد وفاته رحمه الله، فقد صَلَّى عليه – صلاة الغائب – ملايين الملايين من الناس، حيث صُلّي عليه في الحرمين الشريفين ليلة السابع والعشرين من رمضان، التي تبلغ أعداد المصلين فيها مثل أيام الحج، كما صُلي عليه في معظم العواصم العربية وحواضر البلدان الإسلامية، وأُصدرت عشرات من الأعداد الممتازة من الجرائد والمجلات بمختلف لغات المسلمين تتحدث عن مآثره، لأن فقيدنا العظيم لم يكن يُضرب به المثل في النبل والمروءة فقط، بل كان – إلى جانب صفاته الخلقية الفذة – أحد أبرز أعلام العلماء وفرسان العربية في عصره، ومن أجلة الكتاب ومصاقع الخطباء في لغة بلده، وأحد أقطاب التربية والدعوة والإصلاح، ومن طليعة القادة والزعماء الناجحين المحبوبين – الذين لهم حضورهم القوي، ومعايشتُهم الدائمة لقضايا الأمة – في بلاده وخارجها.
أحبتي القراء! لعل صبركم قد عيل أو كاد… فلا أريد أن أزيدكم امتحانًا لصبركم عن التعرف إلى ممدوحنا الجليل النبيل، إنه فقيد الإسلام، حبيب الأمة، فخر العجم والعرب، بركة العصر، شيخنا ومربينا الإمام الداعية العلامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي، رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن أمته ودينه أفضل الجزاء!
صنائع فاق صانعها ففاقت
وغرس طاب غارسه فطابا
(الجمعة: ٢١ من ربيع الثاني ١٤٤٦ھ – ٢٥ من أكتوبر ٢٠٢٤ م).