دعونا نؤكد بكلِّ يقين، ودون إسهابٍ أو استرسال أو خجل أو مُواراةٍ، أن الإعلامَ الإسلاميَّ في مصر، باختلافِ أطيافه، مرئيًا كان أو مسموعًا أو مطبوعًا أو إليكترونيًا، حكوميًا كان أو خاصًا، يواجهُ مِحنة حقيقية تجعله بلا أنيابٍ، منزوعَ الإرادة، غيرَ قادر على المواجهة، يخسرُ معركته من الشرارة الأولى، وإنْ طالت المعركة جولة أخرى أو اثنتين، فإنَّ الخسارة هي المصيرُ المحتومُ أيضًا، وإنْ تمكنَ من المقاومة أكثرَ وحسمَ المعركة في النهاية، فإنَّ نجاحه يكون مُتداعيًا وأقربَ إلى الهزيمة والانكسار، وفضلًا عن ذلك كله، فإنَّ التأثير الإيجابي للإعلام الديني في المجتمع يكادُ يصل إلى حد العدم، نعم.. العدم.
الإصداراتُ الدينية الصادرة عن المؤسسات الصحفية الحكومية وُلدت -منذ البداية- ميتة، بلا فكر أو روح، بدت وكأنها «مُجرد ديكور»، أو مِن لزوم ما يلزم، حتى أنَّ كثيرين من المواظبين على قراءة الصحف الورقية، لا يعرفون أسماءها، وإن عرفوا أعرضوا عن شرائها.
أمَّا الإصداراتُ الصحفية الصادرة عن جماعاتٍ أو جمعياتٍ دينيةٍ، فخاصمت الصحافة منذ العدد الأول، وتحولت سريعًا إلى نشراتٍ ودورياتٍ جوفاءَ، لا يشعرُ بها إلا أصحابُها والعاملون فيها، أو خطبٍ منبريةٍ مكتوبةٍ معزولةٍ عن الواقع، وتعبرُ عن فكر القائمين عليها فقط، غير قابلة لأية أفكار أخرى، وتُعمِّقُ الخلافاتِ، وتثيرُ الفتنَ، وتوسِّعُ دائرة الاستقطاب والطائفية، فانطفأت مبكرًا قبلَ أنْ تُضئ.
الإصداراتِ الصحفيةِ
وفيما يتعلقُ بالإصداراتِ الصحفيةِ الصادرة عن مؤسساتٍ إسلاميةٍ رسمية، نظنُّ بها خيرًا، فإنَّ حالَها لم يكنْ أفضلَ من غيرها، رغم أنها الطرفُ الأصيلُ في المعركة المُحتدمة والحرب المُستعِرة ضد الإسلام تحت دعاوى التنوير الواهية، فضلًا عن امتلاكها الدعم المالي الذي لا ينفد، وتفتقده جميعُ المؤسسات الصحفية الخاصة وبعضُ المؤسسات الحكومية!!
هذه الإصداراتُ -على اختلافها- منذ أبصرتْ النور، لم تكن على مستوى الحدث، ولم تُعبِّر عن نفسها إزاءَ طوفان الأباطيل والتجاوزات من صبيان أبي جهل وحمَّالات الحطب بحق الإسلام تارة، والمؤسسات الدينية ورموزها تارة أخرى، وبدتْ مُنكسرة وكأنها ليستْ صاحبة الحقِّ، كما إنها تقاعستْ عن أداء دورها الأصيل في رفع وعي مجتمع تسودُه تنويعاتٌ متجددة لا تنتهي من السلوكيات الشائنة والقبيحة التي تصطدمُ مع الدين والعُرف والأخلاق!
إصدارات ضعيفة مهنيًا
الضعفُ المِهني الذي يعتري هذه الإصدارات ويتوطُّنُّها ويتوغلُ في أوصالها، وامتدَّ بطبيعةِ الحال إلى منصَّاتها الإلكترونية، يُغرى دائمًا أهلَ الباطل لأن يواصلوا افتراءاتهم وتجاوزاتهم وسخافاتهم، ويُشعرُهم بالزهو والنصر، حتى لو كان نصرًا زائفًا أو كاذبًا، كما الحمل الكاذب! وما ينطبق على الصحافة يمتد إلى إذاعة القرآن الكريم التي تخلت بكامل إرادتها عن دورها ومكانتها في نفوس المصريين، حتى غدت مسخًا شائهًا؛ لأسباب عديدة ومتداخلة، طالما تحدثنا عنها واستعرضناها في مناسبات سابقة.
والغريب أن من بين أيديهم الأمر والنهي يلتزمون الصمت التام، ويُكملون مسار التخريب إلى نهايته، وكأنه مهمة رسمية تم تكليفهم بها؛ لا سيما أنهم لا يشغلهم سوى البقاء في مناصبهم، أو تصعيدهم إلى مناصب أرفع!
ما ينطبق على الصحافة والإذاعة.. يمتد ويتوغل إلى البرامج الدينية التليفزيونية التي تحولت؛ على خلفية محتوياتها ومقدميها وضيوفها، إلى فقرات كوميدية ترفيهية معدومة القيمة، بل إن بعضها انحرف تمامًا عن أهدافه، وتحول إلى أدوات فاعلة في يد خصوم الإسلام ومنتقديه وكارهيه. المحتوى الهابط الذي تتبناه هذه البرامج -التي تم تسييسها وتحييدها منذ اللحظة الأولى- جعلها من سقط المتاع وبلا أي قيمة، ومادة خصبة لنشطاء الفضاء الإلكتروني لإعداد وتصميم الكوميكسات الضاحكة المضحكة، ولكنه ضحكٌ كالبكاء!
ما تقدمَ يجعلنا بصدد ضرورة إجراء «مراجعة نقدية» تفتحُ أمامنا سُبلًا جديدة لتطوير مُنتجات «الإعلام الإسلامي»، بما يُعزِّز القيمَ الجوهرية للإسلام، ويُعمِّقُ روحَ المُواطنة والتعددية الدينية والثقافية، وليسَ الاستمرارَ في الانغلاق والانكفاء وتنميةِ الخلافات بين أتباع الدين الواحد وأحيانًا المذهب الواحد، أو مع الآخر، وبما يخلق حائطَ صدٍّ منيعًا أمام قوى الشر وأصدقاء إبليس في الداخل والخارج. هذا المراجعة لا ينبغي أن يضطلع بها من صنعوا الأزمة وفاقموها، ولكن هناك أسماء كثيرة من أهل العلم والاختصاص والخبرة العميقة ممن تم إبعادهم وتهميشهم وتقزيم أدوارهم، يمكن إسناد هذه المهمة إليهم؛ باعتبارهم أحقَّ بها وأهلها.
الإعلامُ الدينيُّ يجبُ أنْ يغادرَ أنفاقه المُظلمة وجحورَه الضيِّقة وآفاقه العقيمة، إلى آفاقٍ أرحبَ وأوسعَ، ويتجاوزُ الدروسَ الوعظية والتربوية أو الخطب والمحاضرات المُكررة والقديمة والعقيمة والهزلية، وينفتحُ على مجالات الشأن الإنساني بما يخدمُ الفردَ والمجتمعَ ويرتقي بالسلوك البشري، ويُعظِّم القيمَ الإنسانية الجامعة، ويخدمُ الصالحَ العام، ويعالجُ الجوانبَ المدنية والعلمية والثقافية والفنية.
السطحية والاستقطابُ والطائفية
أولُ نقدٍ يمكنُ أن يُقدَّم لواقع كثيرٍ من «الإعلام الإسلامي» في مصر هو: السطحية والاستقطابُ والطائفية والانجذابُ نحوَ أجنداتٍ سياسيةٍ، ومصالحَ تجاريةٍ تسعى إلى استغلال سذاجة المُخاطَبين وعواطفهم، وقبلَ كلِّ ذلك وبعدَه غيابُ المهنية بشكل لا تخطئه عينٌ، ولا ينكرُه مُنصفٌ، ولا ينفيه عاقلٌ.
ينجحُ الإعلامُ الدينيُّ في تحقيق رسالته عندما يستنطقُ المعاني الجوهرية لِلدِّين، وينطلقُ من فكر إصلاحيٍّ حضاري يستوعبُ التحدياتِ الراهنة، وينتقلُ بالعقل الجمعيِّ من الارتهان بالماضي إلى فقه الواقع، ومن القطعيّة العقَدِيّة إلى النسبية الاجتهادية، ومن ازدراء الحياة الدنيا والتحذير منها إلى تعميق معاني الحياة والابتهاج بها.. بحسب الكاتب الأردني «عامر الحافى».
الانتقالُ من الخطاب الديني العاطفي والإعجازي إلى خطابٍ إنسانيٍّ واقعيٍّ يستوعبُ احتياجاتِ الإنسان وهمومَه المُعاصَرة، يمثلُ ضرورة مُلحَّة وضاغطةً، من شأنها أن تُسهمَ في إعادة الثقة بالخطاب الديني من ناحية، والارتقاء بمضمون «الإعلام الإسلامي» من ناحيةٍ ثانيةٍ.
على «الإعلام الإسلامي»، بتنويعاته المتعددة، أن يُعمِّقَ اهتمامَه ببناء المجتمع الإنساني المُعاصر، من خلال التركيز على حقوق الإنسان والمواطنة والديمقراطية وإعلاء قيمَتَي الوحدة والعدالة الاجتماعية والانفتاح على جميع الأفكار واستيعابها، ليس عبر خطابٍ تراثيٍّ فجٍّ أو غليظٍ أو مُنفِّر.. «ولو كنت فظًا غليظَ القلب لانفضُّوا من حولك»، ولا عبر خطاب هزلي هزيل، ولكنْ من خلال آلياتٍ وأدواتٍ تناسبُ مَن يتمُّ استهدافهم من هذا الخطاب، وتواكبُ العصرَ الذي نعيشه، وتكون في الوقت نفسه قادرة على كسر شوكة كل من يحتشدون ضد الإسلام، ويعلنون الحرب عليه من الداخل!