مقالات

مختار محمود يكتب: بيت النتّاش!

من المأثورات الشعبية المشهورة: «بيت النتَّاش عمره ما يعلاش». وفي تأويله: «بيت اللص والخائن -الذي يعتمد في حياته على النهب والسلب وسرقة أموال الناس والاستيلاء على ممتلكاتهم- يظل حقيرًا كما هو، لا يعلو ولا يعمَه العمران،

لأن السارق لا يوفر مما يسرقه، بل ربما لا يكاد يسد رمقه، فضلاً عن أن المال المسروق لا تصيبه البركة، بل سرعان ما يفنى ويضيع،

ويبقى السارق على فقره وإدقاعه، والمال الذي لا يتعب فيه صاحبه لا يحافظ عليه، بل ينفقه أيضًا في الحرام».

 السينما المصرية أنتجت في العام 1952 فيلمًا بعنوان: «بيت النتاش» يدور حول هذه الفكرة أيضًا،

بل إن مخرج الفيلم حسن حلمي أدرج في نهايته أغنية تقول كلماتها:

«بيت النتاشن عمره ما يعلاش، وكلامه كلام واحد غشاش، ويخش الودن ميستناش، جيت من المريخ الساعة اتنين، وسافرت أوروبا في غمضة عين، والسبع ضربته صبح نصفين، وربطت دماغه بقطن وشاش.. يالا يا نتاش»!

قناعة راسخة

يبدو أن هذه القناعة ظلت راسخة عند كثيرين، خاصة ممن يحكِّمون الحلال والحرام في معاملاتهم؛

فيغلُّون أيديهم عن الحرام مهما كان مغريًا وسهلاً، ويتحرَّون الحلال في مطعمهم ومشربهم وملبسهم،

بل ويضعون نصَا شريفًا مثل: «كل لحم نبت من سحتٍ فالنار أولى به» نصب أعينهم.

وآكلُ السّحت كما «النتِّاش»، كلاهما شخص انتهازي، يده طويلة، وبطنه عميق، وضميره مرفوع من الخدمة،

لا يشغله حلال من حرام، همُّه الأكبر أن يؤمِّن نفسه على حساب الآخرين.. ولكن يبقى السؤال: «هل بيت النتاش عمره ما يعلاش فعلاً»؟

يحزنني أن أقول لك: إن الإجابة سوف تكون بالنفي القاطع؛ فـ«بيوت النتاشين» تعلو وتتعاظم، بل وتناطح السحاب، وتغوص في أعماق الأرض.

«النتاش» لم يعد شخصَا منبوذًا ولا مرفوضًا اجتماعيًا، ولا خائفًا وَجِلاً؛ مما اقترفت واختلست وسرقت يداه،

بل شخصًا ذكيًا ألمعيًا، يستطيع الوصول إلى هدفه المنشود من أقصر طريق وبأدنى جهد!

«النتاشون» العلميون

مع تطور الحياة.. لم يعد «النتش» يقتصر على ابتلاع قليل من المال من هنا أو هناك، بل امتد إلى حقوق أخرى كثيرة جدًا،

فأصبحنا نرى مَن «ينتش» بحثًا علميًا؛ ليترقى به أدبيًا واجتماعيًا؛ فلن يجهد نفسه في قاعات البحث والدرس.

أحد هؤلاء «النتاشين» العلميين، ورغم إدانته بحكم قضائي نهائي، فإن ذلك لم ينتقص من قدره اجتماعيًا ومنزلته أدبيًا، ولم يخجل من نفسي فيتوارى،

بل إن اسمه ظل مطروحًا للوزارة سنواتٍ طويلة، ويسترشد بآرائه في كثير من الأمور والقضايا ذات الصلة بتخصصه،

فيما بقي المسروق في طي التجاهل. وزير سابق سبق سطوه على مؤلفات سلفه في الوزارة،

ورغم ذلك، فإنه عمّر طويلاً في الوزارة، ولم ينصف المجتمع الوزير المسروق، ولو بشق كلمة.

ولا يخفى عنك اسم الشاعر -الذي أدين أيضًا وبحكم قضائي بات- بسرقة أشهر أشعاره من شاعر صعيدي قديم،

ورغم ذلك بقي السارق في بؤرة الأضواء، ويتم استدعاؤه في الأحفال والمناسبات المختلفة، بل وتتويجه بالحوائز المالية الدولارية.

«النتش» فن وعلم.. وتخصص دقيق

وعلى صعيد الأموال والبنايات والأراضي فحدِّث ولا حرج؛ حيث أصبح «النتش» فنًا وعلمًا وتخصصَا دقيقًا؛

فسمعنا عن مشاهير استطاعوا -بـ«خفَّة وحرفنة» ممزوجتين بالتدليس- الاستيلاء على أموال وعقارات وأراضٍ، ليست من حقهم،

ولم يدفعوا في سبيلها مليمًا واحدًا، ولم يمسسهم سوء، بل أصبحوا من وجهاء المجتمع الذين يتم استدعاؤهم في التشكيلات الرسمية والبرامج التليفزيونية.

 كثر «النتاشون» بيننا، وتعاظم «نتشهم»، واختلف وتنوع وتعدد، وتضخمت ثرواتهم ومراكزهم الاجتماعية، وسقط معها المأثور الشعبي الشهير،

وضاعت رسالة الفيلم الذي كان يحذر من «النتش» وعواقبه الوخيمة، وأصبح «النتاش» شخصًا مقبولاً اجتماعيًا،

ولم تعد أملاكه التي ابتناها من «النتش» مهددة بالزوال والضياع، بل بقيت محصَّنة ومدعومة، كما أصحابها الجدد،

وإذا تجرأ أحد وسعى إلى استرداد ما تم «نتشه» منه، فليس أمامه سوى سبيل من ثلاثة: إمَّا السجن، وإمَّا مستشفى المجانين.. وإمَّا الموت كمدًا!

مختار محمود البرعي

كاتب صحفي وباحث

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى