في سياق التغيرات الجيوسياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، عاد الحديث مجددًا عن ما يُعرف بمشروع “ممر داود”، وهو مخطط يُعتقد أنه يهدف إلى ربط إسرائيل بنهر الفرات مرورًا بجنوب سوريا وشرقها، في خطوة توصف بأنها استراتيجية بعيدة المدى لإعادة تشكيل خرائط النفوذ في سوريا والمحيط الإقليمي.
مخطط استراتيجي طويل الأمد
ورغم عدم وجود إعلان رسمي من تل أبيب بشأن هذا الممر، فإن مصادر أمنية وإعلامية دولية، منها تقارير The Cradle وThe New Arab، نقلت إشارات متكررة إلى تحركات إسرائيلية ميدانية وسياسية تصب في هذا الاتجاه، ما يعزز فرضية وجود مشروع فعلي يجري تنفيذه بصمت وعلى مراحل.
الأبعاد الجيوسياسية والأيديولوجية
تشير التحليلات إلى أن هذا المشروع قد يوفر لإسرائيل اتصالًا بريًا مستمرًا من الجولان المحتل إلى مناطق النفوذ الكردي شرق سوريا، في نطاق يمتد باتجاه دير الزور وربما نحو الحدود العراقية، مستهدفًا في ذلك تقليص النفوذ الإيراني من جهة، وموازنة التمدد التركي من جهة أخرى، وتأمين جبهة جنوب سوريا من جهة ثالثة.
وتستند بعض القراءات إلى خلفيات أيديولوجية ودينية ترى في المشروع تجسيدًا رمزيًا لما يُعرف بفكرة “إسرائيل الكبرى” التي تشمل الأراضي بين النيل والفرات، وفق تفسيرات توراتية قديمة، بحسب تحليل منشور في Herald Magazine وTimes of Israel Blogs.
إجراءات ميدانية على الأرض
على الأرض، بدأت معالم هذا التوجه بالظهور عبر مجموعة من الإجراءات الأمنية والعسكرية. فقد عززت إسرائيل وجودها العسكري والاستخباراتي في الجولان المحتل، وأنشأت نقاط مراقبة متقدمة قرب الحدود السورية.
كما دعمت، عبر وسطاء، بعض المجموعات المحلية في الجنوب السوري، وسعت إلى تشكيل “مناطق عازلة” لا تخضع لسيطرة الجيش السوري، مما يساهم في بقاء نفوذها قائمًا جنوبًا. في الوقت ذاته، تتجه أنظار المحللين إلى تكرار الضربات الجوية الإسرائيلية لمواقع تابعة لإيران و”حزب الله” في دير الزور والبوكمال،
وهي ضربات تُفسر بأنها تهدف إلى تأمين ممر مستقبلي باتجاه الفرات، وإضعاف أي قوة قد تعيق تنفيذه. وقد وثّقت وكالة رويترز وشبكة BBC Arabic عددًا من هذه الضربات في تقاريرها عن الوضع الأمني في سوريا.
تحليلات إقليمية وتقاطعات مصالح
ترافق هذه التحركات مع تحليلات سياسية وأمنية من جهات متعددة، أبرزها تقارير صادرة عن The New Arab، ترى أن المشروع يشكل محاولة لإعادة هندسة المشهد السوري، على أساس تقسيم طائفي أو قومي.
وتخشى تركيا من أن يُترجم المشروع إلى كيان كردي متصل جغرافيًا من أربيل إلى شمال سوريا، وهو ما تعتبره تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي ووحدتها الداخلية. إيران من جانبها تنظر إلى هذا الممر على أنه محاولة إسرائيلية – أمريكية لقطع طريقها البري نحو لبنان، المعروف بـ”الهلال الشيعي”،
بينما ترى دمشق أن التحركات الجارية في الجنوب والشرق هي انتهاك مباشر للسيادة ومحاولة لتكريس تقسيم الأمر الواقع بدعم خارجي، كما ورد في تصريحات متفرقة نقلتها وكالة سانا.
تأثير المشروع على القضية الفلسطينية
ويتعدى تأثير المشروع الجغرافيا السورية، إذ يُنظر إليه في أوساط فلسطينية وعربية على أنه عامل إضافي لإضعاف مركزية القضية الفلسطينية. فالمخطط، من منظور استراتيجي،
يعزز تفوقًا إسرائيليًا إقليميًا يمكن أن يُستخدم للضغط على الأطراف الفلسطينية والعربية من خلال موازين قوى جديدة تفرض واقعًا تفاوضيًا أقل عدالة. كما يُخشى أن يؤدي نجاح إسرائيل في تثبيت ممر استراتيجي نحو الشرق إلى ترسيخ وضعها في الجولان المحتل، وتعزيز تطبيعها مع دول في الإقليم انطلاقًا من تفوق جيوسياسي لا يقابله ردع فعلي.
وقد ربطت تقارير لمنظمات غير حكومية مثل المرصد الأورومتوسطي ومراكز تحليل كـ Al Jazeera Centre for Studies بين هذا التوسع الإسرائيلي وانكماش مساحات الضغط السياسي لصالح الفلسطينيين.
مخاطر على الجبهات والحدود والسيادة
وقد يسهم هذا التوسع الإسرائيلي، إن تحقق، في تطويق الجبهات الفلسطينية من جهات متعددة، وإعادة توجيه الأنظار بعيدًا عن ملف الاحتلال في الضفة الغربية والقدس وغزة.
كما يمكن أن يُستغل سياسيًا لصرف النظر عن الجرائم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تحت غطاء مواجهة إيران أو حماية الاستقرار الإقليمي.
كما أن التمدد المفترض ضمن هذا “الممر” يعزز محاولات فرض واقع جديد في الجولان، ويمنح إسرائيل هامشًا أوسع للتصعيد العسكري أو المراوغة السياسية، بحسب تقارير Middle East Eye وAl Monitor.
ردود فعل دولية وقلق روسي
يُراقب المجتمع الدولي هذه التطورات بصمت حذر، بينما تنظر روسيا إلى المشروع كمصدر محتمل للتعارض مع نفوذها العسكري في سوريا، خاصة أنه قد يهدد ميزان القوى الذي تحاول موسكو الحفاظ عليه في ظل التداخلات الدولية المعقدة.
وبينما لا يزال “ممر داود” موضوعًا للنقاش والتحليل أكثر من كونه وثيقة سياسية معلنة، فإن الإجراءات الميدانية المتراكمة والخرائط التي تتغير تدريجيًا على الأرض، قد تشير إلى أن المشروع قيد التنفيذ ضمنيًا، ما يضع المنطقة أمام تحديات جديدة مرتبطة بوحدة سوريا، ومصير القضية الفلسطينية، وتوازن القوى الإقليمي، واستقرار الحدود السياسية التي نشأت عقب الحرب العالمية الأولى.