قبل يوم 7 أكتوبر 2022 كنت وغيري، نتعامل مع المنطقة العربية على أنها مجرد مجموعة دول تمثل عبئا كبيرا على العالم كله، منطقة بائسة لا تعرف سوى الدماء المسكوبة في كل بقعة من أراضيها، دماء ناتجة عن انتشار الحروب الأهلية والصراعات العرقية والانقلابات العسكرية.
منطقة تسكنها شعوب ذليلة منكسرة خائفة بل ومرعوبة من المستقبل وقبلها من الأوضاع المتردية الحالية، شعوب مغلوبة على أمرها وتفضل السير ليس بجانب الحائط بل وفي قلب الحائط وأحيانا تحته.
بقعة من الأرض يسكنها الاستبداد والفساد والعنصرية والفوارق الاجتماعية والظلم والقهر والمحسوبية، يتأوه أغلب قاطنيها من آلام الفقر والعجز والبطالة والنهب المنظم والحرمان من ثروات بلادهم.
ويشكون في الغرف المغلقة من عمالة الأنظمة والتبعية للغرب والتخلف وغياب العدالة الاجتماعية والتنمية الحقيقية، وينسجون الحكايات والحواديت عن تمتع طبقة أصحاب الياقات البيضاء بكل الثروات، يتساوى في ذلك الطبقة الحاكمة مع كبار الأثرياء ورجال الأعمال ومن يدور في فلكهم.
منطقة لا تعرف سوى الأزمات الاقتصادية والمالية والمخاطر الجيوسياسية والأمنية والاضطرابات الاجتماعية، حكوماتها في خصام مع المصانع والتروس وأدوات الإنتاج والعمل الجاد والتخطيط وفنون الاستثمار الحديثة، وتكره شيئا اسمه الاعتماد على الذات، تستورد جل غذائها من الخارج.
وتعتمد أسواقها على الصين والولايات المتحدة وغيرها من دول العالم في تموينها بكل أنواع السلع والخدمات، بداية من الأسلحة والمدافع والأجهزة الكهربائية وأدوات المطبخ ونهاية بألعاب الأطفال وأقلام الرصاص وسجادات الصلاة.
منطقة كل ما فيها مقلوب ومعكوس ولا يخدم سوى الطبقة الحاكمة ومن يدور في فلكها، الجزء الأكبر من ثروات وموازنات الدول يوجه لشراء أسلحة لم يتم اختبارها ولو لمرة واحدة في معركة حقيقية ضد عدو يتربص بجميع من حوله، أسلحة مصيرها الصدأ والتآكل في المخازن، وما تبقى من أموال يوجه لدعم محدود تتم معايرة المواطن به في كل مناسبة.
مليارات من الدولارات توجه لتشييد القصور وشراء الطائرات الفخمة والإنفاق على المظاهر، لا على التنمية المستدامة وتطوير الخدمات ومكافحة الجريمة، ولا على توفير رغيف خبز أدمي وتشييد مستشفى ومدرسة ومصنع وتوفير فرصة عمل لملايين الشباب وخدمة نظيفة وبسعر مناسب للمواطن.
مليارات أخرى توجه لتمويل مشروعات كبرى لا علاقة للمواطن بها من قريب أو بعيد، مشروعات تخدم الطبقة الثرية وأحيانا محدثي النعمة.
منطقة لا تعرف بورصاتها وأسواقها سوى مسار واحد هو قفزات الأسعار التي لا تتوقف، واختفاء السلع الضرورية والاحتكارات، وزيادة الضرائب، والاعتماد على جيب المواطن، ليس في سداد التزامات الدولة من دعم ورواتب واستثمارات في البنية التحتية، لكن في تمويل إقامة مدن عمرانية جديدة وفاخرة يقطنها الأغنياء وأصحاب الصفقات وتجار الأزمات، وسداد أعباء ومستحقات قروض خارجية لم يسمع عنها المواطن إلا وقت استحقاق سدادها.
والأخطر أنها منطقة بات قرارها السياسي والاقتصادي يصنع في الخارج، ويملَى على بعض العواصم العربية، قرار يرسم ويتخذ في واشنطن حيث البيت الأبيض ومقار كبار الدائنين مثل صندوق النقد والبنك الدوليين ومؤسسة التمويل الدولية وأصحاب السندات وأذون الخزانة، أو يصنَع في عواصم أوروبية وغربية أخرى، وأحيانا في تل أبيب حيث تتدافع بعض الحكومات نحوها لنيل رضا بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة وأجهزته الأمنية، وحجز مقعد بين جمهور المطبعين وربما الصهاينة العرب.
كانت الصورة شبه سوداوية في معظم الدول العربية قبل انطلاق طوفان الأقصى قبل نحو 3 شهور، حروب وصراعات في اليمن والسودان وسورية، وقبلها في ليبيا والعراق، زلزال عنيف في المغرب وفيضانات كارثية في شرق ليبيا، أزمات اقتصادية حادة في مصر والأردن وسورية ولبنان وتونس والجزائر والعراق والبحرين والمغرب، دول خليجية تسابق الزمن للتطبيع مع دولة الاحتلال.
دول عربية مهددة بالإفلاس والتعثر والانفلات المالي على خطى لبنان وتكرر تجربة الأرجنتين وقبرص واليونان، ديون خارجية قياسية مستحقة السداد، صندوق النقد يفرض شروطه وإملاءاته على بعض الحكومات التي تطلب قروضه ومساعداته المالية، حتى ولو كانت النتيجة دهس ملايين الفقراء والقذف بملايين آخرين في أتون الغلاء، والأخطر أن دولة الاحتلال الإسرائيلي باتت تتحكم في صناعة القرار داخل بعض دول المنطقة.
نفق مظلم وطويل كان البعض يرى أنه لا نهاية له، ويأس يعشش في كل ركن من أركان المنطقة العربية، خصوصا في الدول التي تتوصل فيها الاضطرابات السياسية والاقتصادية، إلى أن جاء يوم 7 أكتوبر الماضي لينتشلنا ولو مؤقتا من حالة التيه واليأس واللخبطة التي كنا نغرق فيها.
يوم أعاد العزة للعرب والثقة في أنفسهم وقدراتهم وعقولهم وإمكانياتهم، وذكرنا بانتصارات السادس من أكتوبر وصلاح الدين الأيوبي وقطز وعمر المختار وغيره من القادة العظام.
يوم عرى دولة الاحتلال من كل ما كان يسترها من جبروت وظلم وإجرام، وكشفها ليس فقط أمام العرب المطبعين، بل أمام دول العالم كله الذي راح يسأل: هل تلك إسرائيل صاحبة أقوى جيش وجهاز مخابرات في منطقة الشرق الأوسط، هل هذه واحة الاستقرار والديمقراطية وسط دول تحكمها ديكتاتوريات كما كانت تزعم؟ هل هذه الدول التي تتدفق عليها مليارات الدولارات كل عام في شكل مساعدات أو استثمارات؟
في هذا اليوم، 7 أكتوبر، صرخ العرب قائلين بصوت عال وشموخ وكبرياء وعزة نفس: “نعم، نحن نستطيع الانتصار على الهزيمة النفسية التي غرسها بعض الحكام فينا أولا، وعلى العدو الصهيوني ثانيا وبأدوات بسيطة وصناعة أسلحة محلية”.
المقاومة الفلسطينية واجهت جيشا زعم لسنوات طويلة إنه لا يقهر بل والانتصار عليه، وأكدت عمليا أنه يمكن أن يكون لدينا إرادة لوأد مشروعات التطبيع ورحلات الحج المجانية من قبل بعض حكوماتنا العربية إلى تل أبيب، وأنه يمكننا صناعة السلاح بأيدينا كما فعلت كتائب القسام وسرايا القدس وغيرهما من فصائل المقاومة، وبعدها يمكننا الاكتفاء الذاتي من الأغذية والقمح والدواء والسلع الضرورية.
يمكننا أيضا الاستغناء عن سلع ومنتجات الدول الداعمة للاحتلال وإحلالها بمنتجات وطنية، يمكننا هز ثقة العالم في دولة الاحتلال، بل وتهديد أسواقها وصادراتها واقتصادها وسمعتها وتاريخها الدموي وجرائمها التي ارتكبتها على مدى 75 سنة.
نعم العرب يستطيعون بعد 7 أكتوبر، فهل يستغلون الفرصة ويكملون المشوار، أم يتم زرع اليأس فيهم مجددا؟