في روايته المؤثرة “مِهنة الأب”، يفتح الكاتب الفرنسي سورج شالاندون بابًا مواربًا على جرح قديم من ذاكرة الطفولة، جرحٍ لا يُشفى بسهولة، حيث يتحوّل البيت إلى ساحة قتال، والأب إلى طاغية صغير، يتخفّى خلف أقنعة الوطنية والمقاومة، ويمارس سلطته المطلقة على ابنه لا حبًا، بل وصايةً، وعبئًا، ومشروعًا سياسيًا فاشلًا.
الرواية التي تُرجمت إلى العربية عن دار “مسكلياني”، بجهد مشترك بين إبراهيم العريس ومحمد المنشيشي، تحمل طابعًا شخصيًا عميقًا، وتعدّ من أبرز أعمال شالاندون، بل ومن أكثر الروايات الفرنسية تأثيرًا في العقد الأخير، حيث حصدت جائزة “غونكور لطلبة المدارس”، وتلقاها القارئ العربي بشغف كبير نظرًا لما تطرحه من قضايا تمسّ البنية النفسية والاجتماعية للأسرة.
الفكرة والمضمون:
تدور الرواية حول الطفل إميل شالاندون، الذي نشأ في بيت تحكمه سلطة أب مهووس بالأفكار القومية، ويمضي حياته مختبئًا خلف حكايات ملفقة عن بطولاته في صفوف المقاومة الفرنسية، وارتباطه بالمخابرات، وصداقته المفترضة مع شارل ديغول.
كان الأب يدّعي أنه يؤدي مهمة سرية لإنقاذ فرنسا، وأن ابنه إميل سيكون يومًا ما زعيمًا أو منقذًا. أما الحقيقة فهي أن الأب عاطل عن العمل، غارق في العزلة والخيالات، يصنع عالمًا من الوهم، ويجبر أسرته على العيش داخله.
الطفل إميل، الذي يعيش تحت هذا الضغط الهائل، لا يجد فسحة للحرية أو التساؤل. يُجبر على التدريبات العسكرية، ومراقبة الجيران، وتبني مواقف سياسية لا يفهمها. ومع مرور الوقت، يبدأ الصبي يدرك التناقض بين ما يعيشه داخل البيت وما يراه في العالم الخارجي، لتبدأ رحلة تمرده وكشفه للحقيقة، وانعتاقه من سطوة الأب.
الرواية بذلك لا تسرد فقط سيرة شخصية، بل تُعرّي السلطة الأبوية حين تتحول إلى قيد، وتنتقد كيف يمكن للبيت، المفترض أن يكون ملاذًا، أن يصبح مصنعًا للألم، وحقلًا خصبًا لولادة التطرف، والكذب، والانكسار.
الشخصيات:
إميل شالاندون (الراوي):
الطفل الذي يمثل ضمير الرواية، شاهد على جنون أبيه، وسجينٌ بين الولاء والخوف، قبل أن يكتشف ذاته ويثور على الوهم.
الأب (أندريه شالاندون):
رمز السلطة المطلقة، رجل مضطرب يعاني من جنون العظمة، يصنع عالمًا من الأكاذيب ويفرضه على ابنه، ظنًا منه أنه يحميه.
الأم (جيل):
الحاضنة الصامتة، امرأة فقدت إرادتها تحت ظل زوجها، فاختارت الانسحاب والانكفاء بدل المواجهة، تاركةً الطفل فريسة للاضطراب.
أبرز المقولات من الرواية:
لا شيء أخطر من أبٍ يحوّل ابنه إلى مشروع سياسي.
أبي كان يخترع التاريخ، وأنا كنت أعيشه كأنه الحقيقة.
لم يكن أبي مجنونًا… كان فقط وحيدًا في وهمه، ونحن كنّا وحده الوحيد.
كنت أفتش عن أبي في الكتب، فلم أجد له اسمًا ولا ظلًا.
الترجمة العربية واستقبال الرواية:
بترجمة بليغة وحاذقة قدّم إبراهيم العريس ومحمد المنشيشي الرواية إلى القارئ العربي، ناقلين جوّها النفسي وطبقاتها الإنسانية المعقدة دون تعقيد لغوي أو إخلال بروح النص الأصلي.
وقد لقيت الرواية ترحيبًا نقديًا واسعًا في الأوساط الثقافية العربية، خاصة لما تثيره من أسئلة حادة حول مفهوم الأبوة، والتنشئة القائمة على القهر، والخوف الموروث في البيوت. وجد كثيرون فيها مرآة لحالات مشابهة في مجتمعاتنا، حيث لا تزال بعض الأسر تُربّي أبناءها على الطاعة العمياء لا على التفكير، وعلى التلقين لا على الحرية.
تشابهات مع الرواية العربية:
لا تبدو “مهنة الأب” غريبة على القارئ العربي، فقد لامست موضوعًا لطالما طرقته الرواية العربية بطرق مختلفة، لعل أبرزها:
رواية “الخبز الحافي” لـ محمد شكري، حيث يروي الكاتب سيرة قاسية عن طفولة مهدورة تحت وطأة أب عنيف.
رواية “الولد الذي أبصر لون الهواء” لـ عبده خال، التي تناولت أثر التربية المتشددة على تكوين الطفل.
كذلك رواية “تلك العتمة الباهرة” لـ الطاهر بنجلون، التي وإن تناولت السجن السياسي، إلا أنها تتقاطع مع فكرة القهر الذهني وتشويه النفس البشرية منذ النشأة.
لكن ما يميز رواية شالاندون هو مزجها بين الذاتي والسياسي، بين العائلي والوطني، بين الكذب المرضي والذاكرة الجمعية، في بنية سردية محكمة، تتأرجح بين الاعتراف والتمرد.
أدب السيرة والسلطة الرمزية:
تنتمي الرواية إلى ما يُعرف بـ”أدب الذاكرة”، لكنها تتجاوز حدود السيرة لتصبح تأملًا فلسفيًا في معنى السلطة داخل الأسرة، وكيف يمكن للأبوين – عن غير قصد أحيانًا – أن يزرعا بذور العطب في نفوس أبنائهما.
إنها دعوة لتفكيك السلطة الرمزية، ولإعادة تعريف الأبوة، لا باعتبارها سيطرة ووصاية، بل مسؤولية ورعاية، واعترافًا بحق الطفل في أن يكون إنسانًا مستقلًا لا مشروعًا مستنسخًا لأحلام لم تتحقق.
في “مِهنة الأب”، لا يكتب سورج شالاندون رواية عادية، بل يقدم شهادة أدبية مؤلمة، عن طفل عاش داخل وهم رجل لم يكن إلا صورة مشوهة للبطولة. هي رواية عن الطفولة المسروقة، عن الخوف المغروس في تفاصيل البيت، عن التواطؤ بالصمت، وعن الأبوة حين تنحرف من الحنان إلى الهيمنة.
إنها رواية لكل من عاش في بيت يُملي عليه ما يفكر، وكيف يعيش، ولمن يريد أن يفهم كيف تُغتال الطفولة باسم الحب، وباسم الوطن، وباسم “الأب”.