مُخطط ترامب لتهجير أهل قطاع غزة: واقع المقاومة أمام أوهام الترحيل
![مُخطط ترامب لتهجير أهل قطاع غزة: واقع المقاومة أمام أوهام الترحيل](https://alomah.net/wp-content/uploads/2025/02/تهجير-أهل-قطاع-غزة.webp)
د. أميرة فؤاد النحال
منذ عقود، شكّل قطاع غزة محوراً رئيسياً في المواجهة الفلسطينية-الصهيونية، حيث سعت الحكومات الصهيونية المتعاقبة إلى إعادة تشكيل الواقع الديموغرافي والسياسي للقطاع عبر وسائل متعددة، من الحصار الخانق إلى الحروب المدمرة، آخرها الإبادة الجماعية التي ارتكبتها بحق أهل غزة على مدار أكثر من 15 شهراً، وفي هذا السياق، جاء مُخطط التهجير الذي طرحته إدارة الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” ليعكس توجهاً أكثر تطرفاً في التعامل مع القضية الفلسطينية، مستهدفاً إفراغ غزة من سكانها وفرض حلول قسرية على حساب الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.
وعلى الرغم من أن مخطط التهجير لا يزال في طور الطرح النظري ولم يُعتمد رسمياً، إلا أن السياسات الصهيونية على الأرض، بما في ذلك التدمير الممنهج للبنية التحتية، تكشف عن محاولة لخلق ظروف تدفع الفلسطينيين إلى مغادرة القطاع قسراً، حيث برزت تسريبات وتقارير تشير إلى أن دوائر صنع القرار في واشنطن و«تل أبيب» ناقشت سيناريوهات تهجير جماعي لسكان القطاع إلى دول مجاورة، مثل مصر والأردن، ضمن ما اعتُبر محاولة لإحداث تغيير ديموغرافي جذري في المنطقة.
ويهدف “مُخطط ترامب” لتحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية التي تتجاوز البعد الإنساني أو الأمني، وتمتد إلى إعادة رسم الواقع السياسي والجغرافي في المنطقة، فمن منظور صهيوني، يشكل القطاع بؤرة تهديد مستمرة، حيث تُمثل المُقاومة الفلسطينية عائقاً أمام أي تصور لحلٍ يخدم المصالح الصهيونية، ولذلك، فإن تفريغ غزة من سكانها يُنظر إليه على أنه وسيلة فعّالة لإنهاء الوجود الفعلي للمقاومة، وتجريد الفلسطينيين من أي بيئة حاضنة تدعم استمرارها.
كما أن «إسرائيل» ترى في التهجير حلاً جذرياً لمعضلة قطاع غزة، الذي يُشكل عبئاً أمنياً واقتصادياً، حيث يتطلب الأمر استنزافاً عسكرياً دائماً، سواء عبر العمليات العسكرية المتكررة أو من خلال الحصار المفروض منذ سنوات، ومن خلال تهجير السكان، يمكن لـ “إسرائيل” التخلص من هذا العبء وفرض سيطرتها المطلقة على القطاع، سواء عبر احتلاله المباشر أو من خلال ترتيبات أمنية بديلة تضمن عدم عودة السكان إليه.
أما من وجهة النظر الأميركية، فإن تهجير الفلسطينيين يُمثل جزءاً من رؤية أوسع تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر فرض حلول قائمة على الأمر الواقع، بحيث يتم إعادة توطين الفلسطينيين في الدول المجاورة مثل مصر والأردن، مما يحوّل القضية الفلسطينية من كونها صراعاً سياسياً إلى مجرد أزمة إنسانية يمكن التعامل معها عبر المساعدات الدولية، وهذا يتماشى مع التوجه الأميركي الدائم لإيجاد “حلول بديلة” للقضية الفلسطينية، تتجاهل الحقوق التاريخية للفلسطينيين وتسعى إلى دمجهم في الدول المحيطة، وبالتالي إنهاء المطالبات بإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
إضافة إلى ذلك، فإن البعد الديموغرافي يُشكل أحد أهم العوامل التي تدفع “إسرائيل” لدعم سيناريو التهجير، حيث تنظر “تل أبيب” إلى قطاع غزة، الذي يُعد من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، باعتباره تهديداً ديموغرافياً طويل الأمد، وبالتالي فإن تقليل أعداد الفلسطينيين في المنطقة يخدم مشروع “يهودية الدولة”، ويعزز التفوق السكاني الإسرائيلي في أي معادلة مستقبلية.
ويواجه مخطط تهجير سكان قطاع غزة عقبات سياسية وقانونية جوهرية تجعله غير قابل للتنفيذ، سواء من منظور الشرعية الدولية أو في ظل الرفض الفلسطيني القاطع لهذا الطرح، فمن الناحية القانونية يُعد التهجير القسري انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، إذ تحظر اتفاقيات جنيف، لا سيما الاتفاقية الرابعة لعام 1949، ترحيل السكان المدنيين من أراضيهم قسراً تحت أي ذريعة، كما أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يصنف الترحيل القسري كجريمة ضد الإنسانية، الأمر الذي يجعل أي محاولة لتنفيذه معرضة للملاحقة القانونية الدولية.
إضافة إلى ذلك، فإن قرارات الأمم المتحدة، بما في ذلك قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة، تؤكد على حق الفلسطينيين في البقاء في أراضيهم، وترفض أي محاولات لتغيير التركيبة السكانية قسراً، كما أن أي تهجير واسع النطاق سيثير ردود فعل دولية قوية، خاصة من الدول التي لا تزال تلتزم بحل الدولتين وترى في مثل هذا المخطط تقويضاً لأي إمكانية لتسوية سياسية عادلة، ولذلك فإن تمرير مشروع التهجير على المستوى القانوني والدبلوماسي سيكون في غاية الصعوبة، لا سيما إذا قوبل برفض عربي ودولي واضح.
على الصعيد الشعبي يظل الفلسطينيون في غزة رغم حجم الدمار والمعاناة متمسكين بأرضهم بشكل غير مسبوق، فالصمود الذي أظهره سكان القطاع طوال أكثر من 15 شهراً من الحرب يُؤكد أن فكرة النزوح الجماعي ليست خياراً وارداً، حيث يدرك الفلسطينيون أن التهجير ليس مجرد انتقال جغرافي، بل هو محاولة لإنهاء وجودهم الوطني والسياسي، كما أنّ المقاومة ساهمت في تعزيز هذا الرفض، حيث بات واضحاً أن أي محاولة لفرض النزوح بالقوة ستواجه برد فعل قوي، كما أن التجارب التاريخية، بدءً من نكبة 1948 وصولاً إلى الحروب المتكررة على غزة، عززت لدى الفلسطينيين قناعة بأن أي تهجير قسري يعني خسارة الأرض بلا عودة، وهو ما يدفعهم إلى التشبث بوطنهم رغم الظروف القاسية، وبالتالي فإن أي رهان صهيوأميركي على أن الحرب أو الحصار سيدفع سكان غزة إلى مغادرة القطاع طواعية يبدو بعيداً عن الواقع، حيث أثبتت الوقائع أن الفلسطينيين مستعدون لتحمل كلفة البقاء مهما كانت التضحيات.
وعلى صعيد المقاومة الفلسطينية فهي تُمثل جدار الصد الرئيسي أمام المخططات الاستيطانية والتهجيرية التي تحاول “إسرائيل” فرضها، خاصة في ظل السياسة الأمريكية المتحيزة التي يتزعمها ترامب، الذي طرح من قبل ما يُسمى بـ “صفقة القرن” والتي كان من أبرز بنودها تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين وضم الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى إسرائيل، هذه الصفقة شكلت تحدياً مباشراً للحقوق الفلسطينية في إقامة دولة مستقلة وعاصمتها القدس، إلا أن المقاومة الفلسطينية على مختلف مستوياتها، كانت رافضة لهذه الخطط وأكدت على أن الشعب الفلسطيني سيظل متمسكاً بأرضه وحقوقه، مهما كانت التحديات.
كما أنّ دور الفصائل الفلسطينية في هذا السياق كان مهماً، فالفصائل سواء كانت حماس، الجهاد الإسلامي أو غيرها، تُمثل القوة الضاربة التي تقاوم الاحتلال الصهيوني على الأرض، ومنذ الأيام الأولى لمعركة “طوفان الأقصى” تمكّنت كتائب القسام من إطلاق هجمات معقدة استهدفت مواقع استراتيجية في الأراضي المحتلة، بالإضافة إلى تفعيل شبكة الأنفاق العسكرية التي استخدمتها لمفاجأة القوات الصهيونية، والتي ساهمت في إرباك جيش الاحتلال وإضعاف قدراته العسكرية على الأرض، ما جعل تنفيذ المخطط الصهيوأميركي أكثر صعوبة، حيث أنّ الكتائب كانت في قلب الدفاع عن غزة، فقد خاضت معارك عنيفة على عدة جبهات، وتسببت في خسائر جسيمة للجيش الصهيوني، إذ أن المقاومة الفلسطينية والقدرة على الصمود أفشلت رهانات الصهاينة والولايات المتحدة على تغيير الواقع الديموغرافي في غزة، حيث أظهرت للمجتمع الدولي أنّ فلسطين لن تكون ساحة للتصفية أو التهجير، بل ستظل جبهة مقاومة لا هوادة فيها.
مستقبل غزة في ظل التحديات الراهنة يبدو محاطاً بالعديد من المخاطر، ولكن يبقى ما أظهره أهل غزة من مقاومة شرسة خلال معركة «طوفان الأقصى» يُؤكد للعالم أجمع أن الأرض الفلسطينية، وخاصة غزة، ليست مجرد مكان جغرافي يمكن تغييره أو التخلص منه، بل هي قلب القضية الفلسطينية، وأنّ الصمود العسكري والسياسي والشعبي يُؤكد أنّ أي محاولة لفرض حل قسري، سواء عبر التهجير أو التصفية، ستكون محكومة بالفشل أمام إرادة الشعب الفلسطيني، ومهما كانت التحديات الراهنة، فإن غزة ستظل مشعلاً للمقاومة نحو الحرية والاستقلال، والمعركة من أجل فلسطين لن تنتهي حتى تتحقق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.