الشيخ محمد عبد الله الخطيب
بسم الله الرحمن الرحيم.. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
فإن الاحتفال بمولد النبي- صلى الله عليه وسلم- احتفالٌ بالأسوة والقدوة.. احتفال بمن أخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد..
احتفال بمن أمرنا الله- عز وجل- بأن نحبه وأن نتبعه وأن نتأسى به، يقول أحد التابعين لأحد الصحابة: يا عم، هل رأيتم رسول الله وشاهدتموه؟
قال: نعم، قال: فماذا كنتم تفعلون معه؟
قال: والله يا ابن أخي كنا نجهد في اللِّحاق به- أي إنه كان يتحمل أكثر منَّا-
فقال: يا عم، والله لو صاحبناه وعشنا معه لحملناه على أكتافنا، ولما تركناه يمشي على الأرض اعترافًا بحقه وفضله علينا.
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو النعمة المسداة، والرحمة المهداة، يقول عن نفسه وعن اصطفائه واختياره واجتبائه: “إن الله اصطفى من ولد إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريش، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار” (رواه مسلم)،
ويسأل- صلى الله عليه وسلم- الصحابة: “من أنا”، فيقولون: أنت رسول الله- ولكنه- صلى الله عليه وسلم- يريد أمرًا آخر، يريد أن يعرفهم به، وهو النسب الصحيح السليم- فيقول لهم معرفًا: “أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله لما خلق الخلق فرقهم فرقتين، فجعلني من خيرهم فرقة، ثم فرقهم قبائل، فجعلني من خيرهم قبيل، ثم فرقهم بيوتًا فجعلني من خيرهم بيتًا، فأنا من خيركم بيتًا، وأنا أطيبكم نفسًا” (رواه أحمد في مسنده)،
وقال- صلى الله عليه وسلم-: “ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح” (رواه البخاري)؛ أي إن السلسلة المطهرة الكريمة التي جاء منها- صلى الله عليه وسلم- من آدم إلى نبينا سلسلة طاهرة مبرأة نظيفة، حفظها الله- تبارك وتعالى-، إن نبينا صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كان مثالاً يحتذى.
يروي ابن الأثير أن النبي- صلى الله عليه وسلم-: “قال ما هممت بشيء كانت تفعله الجاهلية سوى مرتين، وحفظني الله الأولى؛ قلت لزميل لي كنا نرعى الغنم: لو رعيت غنمي لو رعيت لي غنمي حتى أدخل إلى مكة، فأسمر كما يسمر الشباب، فقال: أفعل، فدخلت وفي أول مكة، رأيت عرسًا فيه غناء، وفيه وفيه، فجلست أسمع فلم أسمع، وضرب الله على أذني، ونمتُ حتى طلع الصباح، ومرة أخرى قلت له مثل ذلك ودخلت إلى مكة وصنع الله بي كما صنع في المرة الأولى” (رواه البخاري).
ويعلمنا- صلى الله عليه وسلم- أنه في إحدى المرات كان الشباب يلهو، وكانوا يحملون الحجارة، وكان كل شاب يضع ثوبه فوق كتفه، وهو يحمل الحجر، ووضع- صلى الله عليه وسلم- ثوبه فوق كتفه، ولما أراد أن يحمل الحجر، كانت عورته ستظهر، فصاح- صلى الله عليه وسلم- وألقى الحجرَ وسدل الثوب فلم يظهر منه شيء،
وهكذا حفظه الله- تبارك وتعالى- ظاهرًا وباطنًا في حياته كلها؛ لأنه يعده لأمرٍ عظيم كبير ضخم شامل باقٍ مستمرٍّ إلى يوم القيامة، وهذا ما كان.
كان على النبي- صلى الله عليه وسلم- دَين لرجلٍ، وجاء موعد الدَّين- وهذا قبل البعثة- وجاء الموعد، وذهب- صلى الله عليه وسلم- ينتظر صاحب الدَّين فلم يأتِ الرَّجل، فرجعَ- صلى الله عليه وسلم- إلى بيته، وفي اليوم الثاني جاء بالدَّين فلم يأت الرجل فرجع- صلى الله عليه وسلم- إلى بيته، وفي اليوم الثالث جاء بالدَّين فجاء الرجل، فأعطاه- صلى الله عليه وسلم- حقَّه، وقال له: “يا هذا لقد شقَقت عليَّ، أنا انتظرك هنا منذ ثلاث”
هذا هو رسولنا- صلى الله عليه وسلم- الذي اختاره المولى- تبارك وتعالى- ليكون رحمةً لا للعربِ ولا للعجمِ ولا لقومٍ بعينهم؛ ليكون رحمةً للعالمين، يأخذ بأيدي الناس جميعًا، وقال الله- تبارك وتعالى- لنا بكل صراحة ووضوح: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب: 21)، أي إن أي إنسان يرجو لقاء الله ويرجو الآخرة لابد أن يسير وراء هذا النبي، وأي إنسان لا يسير وراءه أو لا يتبعه أو لا يقتدي به أو لا يلتزم بسنته فيتبع سبيلاً آخر، والله- عز وجل- أمرنا بغير هذا، فقال: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام: 153)، وقال لنا: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ (الأعراف: 3)، ولهذه المنازل كان- صلى الله عليه وسلم- يتقرب من ربه.
يقول أحد الصحابة: كنت أحرس النبي- صلى الله عليه وسلم- وأبيتُ خارج حجرته، فأسمعه يصلي ويستغفر ويتوب وأنا أتسمَّع، ويمضي الليل ويمضي في الاستغفار وفي التوبة وفي التسبيح وفي التهليل وفي التكبير، وأنا أسمع حتى تغلبني أذناي فأنام والرسول- صلى الله عليه وسلم- سفينة تمضي إلى الله- عز وجل- مسبِّحًا مكبرًا مهللاً، وهكذا يجب أن يكون المؤمن.
إن علينا أن نكون في ذكرى المولد النبوي وفي غيره أن نفتش عن سنة النبي- صلى الله عليه وسلم- وأن نتبعه، وأن نقتدي به، وأن ننظر ماذا كان يفعل في يومه، وفي ليلته، وفي سجوده، وفي طعامه، وفي شرابه، وفي خروجه من بيته، وفي سعيه، وفي سفره، وفي نومه، وفي معاملته لأهله..
تقول السيدة عائشة وقد سُئلت: كيف كان حال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- معكم؟ فقالت: “كأحدكم، يكون في حاجتنا، يخيط ثوبه، ويرتق نعله، ويقمُّ لنا البيت- يكنس البيت- فإذا نودي للصلاة فكأنما لا نعرفه ولا يعرفنا”.
مَن مِن المسلمين اليوم في داخل البيت تكون فيه هذه الأخلاق، وهذه الصفات؟!
نحن في حاجة إلى عزيمةٍ فنقطع المسافة بيننا وبينه.. المسافة التي صنعها الكسل.. وصنعها القعود.. وصنعها الشيطان.. نقطع المسافة ونقترب منه.. ونعزم كما كان يعزم.. ونقوم الليل كما كان يقوم.. ونقرأ القرآن كما كان يقرأ.. ونستغفر كما كان يستغفر..
يقول- صلى الله عليه وسلم-: “إنه ليُران على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة” نستغفر كما كان يستغفر..
ونتوب كما كان يتوب.. ونحمد الله كما كان يحمده.. ونسبح الله كما كان يسبحه.. في حاجة إلى أن نقطع هذه المسافة التي صنعها الشيطان وأبعدنا عنه وجعلنا نُشغل بأشياء تضيع الوقت.. الشيطان قاد الكثيرين من الناس وأبعدهم عن الطريق.
أسوة حسنة نتأثر به، ونأخذ عنه، والسنة تملأ في كل مكان، أحاديث النبي- صلى الله عليه وسلم- تملأ كل مكان، لا عذر لأحد.. لا عذر لمسلم.. لا عذر لمعتذر.. فالسنة وكتب السنة سهلة وموجودة وحجة علينا جميعًا، والقرآن حجة علينا.
إن الاحتفال بمولد النبي- صلى الله عليه وسلم- يكون بإحياء سنته، وبالعمل بهذا الكتاب العظيم.. كتاب الله عز وجل.. أما بغير هذا فلا، الاحتفال بمولد النبي- صلى الله عليه وسلم- يكون بالتمسك بهذا الحق.. وبالعمل بهذا الحق.. والاقتداء بهذه النبوة، ويكون باستشعار المسئولية بين يدي الله.. وباستشعار التبعة بين يدي الله، وباستشعار: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا* اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ (الإسراء: 13-14) استشعار أن هذا العمر محدود.. وأن اللقاء مع الله قريب، ماذا نقول، وبماذا نجيب.. وبماذا نؤدي.. أما الحياة التافهة الرخيصة السطحية التي لا قيمة لها ولا وزن لها فقد كان- صلى الله عليه وسلم- من أبعد الناس عنها.
كل مسلم يستطيع في هذه الأيام أن يضع خطًّا جديدًا.. وطريقًا جديدًا.. وبداية جديدة؛ يقبل على الله، ويتوب عن الماضي، ويبدأ عهدًا جديدًا مع الله، والله- عز وجل- لا يرد تائبًا، ولا يرد منيبًا، ولا يرد مقبلاً عليه؛ بل يتلقاه ويكفِّر عنه ما مضى، ويرفع في درجاته، فلنقبل على الله- عز وجل- ولتكن هذه الفترة فترة عودة المسلمين إلى ربهم واقتدائهم برسول الله، وكفى ميوعة.. وكفى استهتارًا.. وكفى ضياعًا؛ فقد ضاع من العمر الكثير وقد ضاع من الوقت الكثير. وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول: “لا طلعت عليَّ شمس يوم لا أزدد فيه علمًا يقربني من ربي”، فلنتزود من العلم، ومن العلم النافع، ولنتزود من الطاعات، ولنكثر من الاتباع لرسولنا- صلى الله عليه وسلم-: ﴿قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران: 31-32).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*ثبتنا الله على الطريق غير مضيعين ولا مبدلين… وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم*