يسري الخطيب يكتب: صوفية المماليك وصوفية العثمانيين
1- الجيش العثماني بقيادة (السلطان سليم الأول) يهزم جيش المماليك بقيادة (طومان باي) في معركة الريدانية (العباسية الآن)، في 22 يناير 1517م. وذلك بعد مقاومة عنيفة استمرت عدة أيام، وقد أدَّى ذلك إلى سيطرة (سليم الأول) على القاهرة وإعدام (طومان باي) شنقًا، واستمر العثمانيون (الأتراك) في مصر، حتى سنة 1914م، ورسميا حتى انتهاء الخلافة، في سنة 1922م.
2- فى كتاب: (تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر) للكاتبين: عمر الإسكندري، وسليم حسن: (ذهبَ “طومان باي” بعد أن بذل جهدا خارقا في الدفاع عن مصر، وانفضّ الجميع من حوله، إلى أحد زعماء القبائل بالبحيرة، ويُدعى: “حسن بن مرعي، وابن عمه “شكري” وكان لـ”طومان” عليهما أفضال عظيمة، وقرر “طومان باي” الاختفاء عند ذلك الرجل، واستحلفه أن لا يخونه، ولكن الأخير غدر به، وكاشف السلطان سليم بأمره، فقد طمعَ الخائن (حسن بن مرعي)، في مكافاة سليم الأول، ولكنه لم يهنأ كثيرا بالمكافاة، فقد كان “سليم الأول” داهية، ويعرف أن الخائن لا أمان له، فقام بسجنه لفترة في سجن القلعة، ثم تركه ليهرب، وبعد أن تمكّن من الفرار من السجن، وقعَ في يد المماليك الذين قطعوا رأسه، ومزّقوا جثته…
3- كان “طومان باي” صوفيًا متشددًا، يلبس الخرقة الصوفية تحت عباءة الحُكم،
تسلّم الحُكم بعد مقتل عمه: السلطان الغوري، تحت أقدام الخيل، بموقعة مرج دابق، عام 922هـ/1516م، بعد أن عيَّنه نائبًا له قبل خروجه لقتال العثمانيين.
4- بعد مقتل “الغوري” أجمعَ الأمراء على اختياره سلطانًا لمصر، وقد رفض “طومان باي” بشدة، فأجلسوه بالقوة على “الكرسي” بعد أن ألبسوه عباءة الحُكم، ولكنه خلعها، وجرى باتجاه الشارع، والمصريون يشاهدون هذا المشهد العجيب لرجلٍ يرتدي جلبابا من الصوف، يجري في الشارع، وتجري خلفه مجموعة من الجنود والأمراء المماليك، وفي أيديهم عباءة الحُكم.
5- أمسكوا به، وأجلسوه بالقوة، فبكَى، وكان شرطه الوحيد: (لا تخونوني)، فأقسموا على ذلك، ولكنهم خانوه، وباعوه بثمنٍ بخس، وتركوه يقاتل بمفرده..
6- تمتعَ طومان باي بمكانة خاصة في نفوس المصريين، بالرغم من أن فترة حُكمه لم تزد على: ثلاثة أشهر و14 يوما فقط، بسبب زُهدِهِ، وعدلِه، وبساطته.. فلم يكن يشبه سلاطين وأمراء المماليك في تصرفاتهم، ومنعَ دخول الخمور والجواري والمطربين والراقصات، إلى قصر الحُكم، ولذا سمّاه المصريون: السلطان الدرويش.
(وُلِدَ الأشرف أبو النصر، الشهير بـ طومان باي، عام 1474م، في مدينة حلب السورية، وهو من أصل شركسي، واشتغل خادما في قصر سلطان مصر آنذاك الأشرف قايتباي وهو في سن مبكرة، وذلك بعد أن أخذه عمه معه إلى مصر وقدمه للسلطان.
– اشتغل بعد ذلك في ديوان الأعمال الكتابية بالقصر السلطاني، وأصبح بعدها أحد أعضاء الحرس الخاص للسلطان، بعدما تعلم فنون الفروسية، ثم ترقى تدريجيا حتى أصبح أميرا على 100 شخص. وفي عام 1500م، أصبح عمه قانصوه الغوري سلطان المماليك في مصر، الأمر الذي فتح لطومان باي أبواب تسلّق درجات الحكم في مصر، فأصبح الذراع الأيمن لعمه ونائبه في حكم دولة المماليك)
7- أما السلطان “سليم الأول” فكان جبارًا، بحسب المؤرخين العثمانيين، فقد كان يمثّل بجثث الأعداء، والمختلفين معه من المسلمين، وتركَ جسد “طومان باي” بعد شنقه، ثلاثة أيام، ليشاهده الناس، وكان عمره في ذلك الوقت 44 عاما، وبعض المصادر تؤكد أن عُمر “طومان باي” لم يكن يتجاوز 35 عاما، والله أعلم
8- تقول الرواية الشعبية الصوفية: (ظلت أم طومان باي، تبحث عنه بعد خطفه صغيرا، لمدة 31 سنة، ووصلت مصر في اليوم الثالث لشنقه، فقطعت الأحبال وأنزلت ابنها، وسط نحيب المصريين ودموعهم، وهم يرددون كلمات المؤرّخ “ابن إياس” الذي كان حاضرًا:
(لهفي على سلطان مصـــــــر وكيف قد/
ولّى وزالَ كأنه لم يُذكَــــــــرا/
شنقوه ظُلمًا فوق باب زويلةٍ/
حتى أذاقوه الوبالَ الأكبرا/)
9- لكن كان الخطأ الذي لا يُغتَفَر للسلطان الغوري، كما يقول المؤرخ “ابن إياس” الذي هاجم الغوري ودافع عنه في آنٍ واحد، هو اتحاد الغوري مع الصفوي الشيعي، ضد العثمانيين السُّنّة، ويُبرّر ابن إياس له تلك الخطيئة ويقول: بعد سيطرة العثمانيين على الشام، واستعدادهم للزحف نحو مصر؛ خاف الغوري على حُكمِه، وتعاون مع الشيطان (الصفوي) ضد الدولة العثمانية..
أما بعض المؤرخين الأتراك، فيزعمون أن سليم قتل طومان باي لأنه قتل رُّسُل السلطان سليم، وتلك فرية لا أساس لها، تاريخيا، فقد عرضَ “سليم” على السلطان المملوكي أن يبقى حاكما لمصر، بشرط أن يكون تحت تصرفه، وذلك عن طريق بعض الأمراء العرب.
صوفية المماليك وصوفية العثمانيين:
10 – كانت صوفية المماليك صوفية قبورية، يؤمنون بالأولياء وقدراتهم، وكان بعض سلاطين المماليك يعتمدون على المجاذيب والعرّافات والنجوم اعتمادا كُليًّا في حروبهم وحياتهم..
لكن لا يستطيع أحدٌ أن ينكر دورهم التاريخي في الدفاع عن بلاد المسلمين، وصد هجمات أعداء الإسلام، ونشر دين الله، والقضاء على المغول..
11- أما الصوفية العثمانية فهي صوفية جهادية، كما شرحها الرحّالة ابن بطوطة..
فالصوفي في التركية هو (الأخيُّ) من الأخ في العربية..
وكانوا يسيطرون على كل المناطق المسلمة من قبل ظهور آل عثمان، فقد كانوا يحفظون القرآن الكريم، ويتدارسون الفقه، ويقومون بتحفيظ أبنائهم القرآن، وتدريبهم على كل فنون القتال لإعدادهم للحروب..
وكان هدفهم الأول هو الجهاد ونشر الإسلام في جميع أنحاء الدنيا، ولذا قال ابن بطوطة: إن زُهد وجهاد وحياة وكرم الأخيّ (الصوفي) التركي، هو أعظم ما رآه في حياته.
12- يكفي أن تعرف أن الدولة العثمانية التي حَكَمت العالم (600 سنة) قامت على أكتاف 5 طرائق صوفية: الخلوتية، والرفاعية، والمولوية، والوفائية، والبكتاشية، حسب كلام المؤرّخ محمد فؤاد كوبريللي، في كتابه (قيام الدولة العثمانية)
عوامل انهيار الدولة العثمانية
ولكن الطرائق الصوفية أيضا كانت من عوامل انهيار الدولة العثمانية بعد أن انحرفت عن الطريق، ولذا يقول الدكتور الصلابي في كتابه “الدولة العثمانية – عوامل النهوض وأسباب السقوط”: (إن أعظم انحراف وقع في تاريخ الأمة الإسلامية ظهور الصوفية المنحرفة كقوة منظمة في المجتمع الإسلامي، تحمل عقائدا وأفكارًا وعبادات بعيدة عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قَوِي عود الصوفية المنحرفة واشتدت شوكتها في أواخر العصر العثماني، وكانت سببا رئيسا في انهياره)
ويضيف الدكتور الصلابي: (وفي الوقت الذي كانت فيه الأمة تعاني أشد المعاناة من الضعف والانحطاط، وتدور عليها المؤامرات من الأعداء وتحاك لها الدسائس، كان كثير من علمائها طوع مشيئة شيوخهم من المتصوفة المنحرفين، الذين أشاعوا روح الذل والخنوع في الأمة والذلة والهوان وغير ذلك من الأمراض المنحرفة، وتركت كثير من الطرق الصوفية المنحرفة الجهاد لمقارعة الأعداء، وأصبح الأولياء في عُرف الناس هم المجاذيب والمجانين والمعتوهين)
13- يقول الكاتب الناصري (محمد حسنين هيكل) في كتابه (سنوات الغليان):
(إن الرئيس جمال عبد الناصر، أُصيب بالدهشة وهو يراجع ميزانية الدولة في سنة 1955م، فقد اكتشف أن مصر ظلت تدفع الخـراج (الأموال المقررة عليها) للخلافة العثمانية (تركيا) حتى عام 1955م، وبالتحديد بلغ إجمالي ما تم دفعه بالجنيهات الذهبية: 23.174.984 جنيها!)
14- ظلت مصر تدفع (الـخـراج) لدولة الخلافة الإسلامية المنتهية: 41 سنة..
41 سنة في غيبوبة، بسبب الروتين، والبيروقراطية، وغباء الأجهزة الإدارية
——————–
المصادر:
(الدولة العثمانية – عوامل النهوض وأسباب السقوط) د. علي محمد الصلابي
(تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر) للكاتبين: عمر الإسكندري، وسليم حسن
(تاريخ العثمانيين) محمد سهيل طقوش
(تاريخ الدولة العثمانية) يلماز أوزتونا
(تاريخ دولة المماليك في مصر) السير وليم موير
(قيام الدولة العثمانية) محمد فؤاد كوبريلي
(دولة المماليك الشراكسة) عبد الباسط الظاهري
(طومان باي) د. عبد المنعم ماجد
(التصوف وآثاره في تركيا أبان العصر العثماني) حنان عطية الله المعبدي
(سنوات الغليان) محمد حسنين هيكل