يسري الغول يكتب: «غزاوي.. سردية الشقاء والأمل» وتوثيق الحكاية
تواصل معي الصديق والمناضل الفلسطيني جمال زقوت قبل حوالي عام، وتحديداً بعد انتهائه من كتابة عشرات التدوينات التي تتعلق بطفولته وشبابه وصولاً إلى مراحل النضال التي لم تنته بأوسلو، بل امتدت حتى يومنا هذا، من خلال دوره كمثقف عضوي يأخذ زمام المبادرة ويفتح نوافذ الأمل والتغيير نحو الأفضل لقضيتنا الوطنية.
كانت تلك التدوينات مدرجة ضمن كتاب ضخم، تم اختزاله مع صدور الكتاب مؤخراً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، حيث حمل عنوان “غزاوي.. سردية الشقاء والأمل”، وفي غلاف من تصميم مايا شامي وصورة صديقي الشاب عمر القطاع. حيث يقود في الصورة طفل من مخيم الشاطئ دراجته الهوائية داخل البحر، خلفه طفلة جميلة تتشبث بهذا الطفل كما نتشبث بالحياة.
في تقديم صديقي الروائي والقاص الكبير محمود شقير، ذكر عن ذاكرة جمال المتوقدة، وحماسة تدوين هذا التاريخ النضالي العريق، وكيف كان يعمل ليكمل دراسته بعد قمع العواصم العربية لجمال، متنقلاً من بلد إلى آخر، وصولاً إلى بلغاريا التي تعرف خلال الدراسة على رفيقة دربه نائلة، العظيمة التي أفرد لها فصلاً كاملاً، إذ لم تتردد سلطات الاحتلال الإسرائيلي من اعتقالها بعد ثلاثة أشهر من زواجها، حيث مارس الاحتلال التعذيب النفسي والجسدي لهذه المرأة المناضلة حتى أسقطت حملها وأجهضت جراء ذلك التعذيب.
كما يقول محمود شقير: «جمال وهو يكتب سيرته، يسرد كثيراً من قضايا الوضع العام الفلسطيني، وكذلك الوضع العربي، وبعض تطورات الوضع العالمي، وخصوصاً في بلغاريا بعد انهيار نظامها الاشتراكي. ولعل ميزة هذا السرد، أنه يتم بأسلوب بعيد عن الرصد التوثيقي الجاف، فيكون السارد في قلب الحدث أو على مقربة منه، فيصبح كما لو أنه جزء من رؤية السارد ومن تجربته».
هذا الكتاب الذي يمكن اعتباره سيرة روائية أو يوميات تخللها الكثير من التفاصيل حول الظروف الراهنة والتي أسست لهذا الواقع المرير تضعنا أمام تحديات الهوية، إذ إن الفلسطيني المغترب في وطنه، والمحاصر في غربته، والمنقسم على نفسه، الباحث عن الحرية وهو مكبل بأصفاد التبعية والحزبية والأيديولوجية، بحاجة لأحد يطرق جدران الخزان، لذلك يمكن اعتبار هذا الكتاب أهم الأعمال التي صدرت مؤخراً في إذكاء روح الانتماء لفلسطين، والبحث عن حلول لهذا الواقع المرير بعيداً عن الشعارات الكبيرة.
يقول جمال في غزاوي: عدت وسأروي حكاية الغزاوي فيّ الذي ولد بين الرمل ومياه البحر، وها هو في كتابه يسرد لنا في عدة فصول حكايته التي بدأت بالمخيم، ثم بشير وشتات العواصم، وفي الفصل الثالث: نائلة وأنا، ثم الرابع حول الانفجار الكبير، وأخيراً بين السجن والإبعاد.
كتاب يعتبر سيرة حافلة لحياة لاجئ ومناضل من جيل النكبة في مخيمات اللجوء، جاء في ثلاثمائة وتسعة وسبعون صفحة من القطع المتوسط، يمثل أهمية كبيرة لكل الأجيال الجديدة كي يتعرفوا على تاريخهم المنسي على قارعة الانقسام، خصوصاً بعدما وصلنا إلى مرحلة تجاوزنا فيها فكرة الثورة الحقيقية ضد الاحتلال، وانشغلنا بهموم المواطن العادي وقضايا هامشية تسببها وجود احتلال غاشم يرزح على الأرض منذ عقود.
هذا الكتاب الذي يتحدث عن هزيمة حزيران واندفاع جمال زقوت للدفاع عن وطنه، وانضواؤه تحت راية الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والعمل على تأسيس الجبهة الوطنية ولجنة التوجيه الوطني، وتسليط الضوء على الرجل الفلسطيني العظيم حيدر عبد الشافي رحمه الله، ثم الحديث عن تآكل المرجعيات والموقف الفلسطيني المفاوض، والغوص في تجارب السجن لجمال ونائلة ثم الإبعاد والهرب، كتاب يتحدث عن الوطن والموت في سبيله كما جرى مع الشهيد بشير، الأخ الأكبر لجمال. يخوض في تاريخنا منذ الانتفاضة الأولى وما نجم عنها، إلى هذه الحقبة التي طالب الكاتب ألا نسلم بها، بعد الإنجازات التي راكمها الفلسطيني الثائر.
لقد كانت توصية الراحل فيصل حوراني للكاتب جمال زقوت بتوثيق سيرته ناجعة، إذ إن الكتاب يشير إلى أننا أمام رجل سياسي ومناضل وكاتب بارز، أظنه سيستمر ليكتب لنا أجزاء لاحقة، لتوثيق تاريخ فلسطين برؤية مغايرة.
«غزاوي، سردية الشقاء والأمل» كتاب مهم جداً، أنصح باقتنائه وقراءته.