1. تمهيد
الأمثال الشعبية مرآة للذاكرة الجمعية، تختزل تجارب الشعوب في عبارات موجزة وموحية. ومن الأمثال المصرية البليغة قولهم: «آخِر خدمة الغُز علقة»، أي أن نهاية الخدمة والإخلاص للحكّام – خاصة الأتراك العثمانيين (الغُز) – لا تكون إلا بالإهانة أو العقوبة (العلقة). وهو مثل قريب من قولهم: «آخر المعروف ينضرب بالكفوف».
هذا البحث يحاول قراءة المثل في ضوء الشريعة الإسلامية، والوقائع التاريخية، والمقارنة مع أمثال عربية وأجنبية.
—
2. المثل في ضوء الشريعة الإسلامية
2.1 القرآن الكريم
أكّد القرآن قاعدة مقابلة الإحسان بالإحسان:
﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ﴾ [الرحمن: 60].
2.2 السنة النبوية
قال ﷺ: «من صُنِع إليه معروف فقال لِفاعله: جزاك الله خيرًا، فقد أبلغ في الثناء» (رواه الترمذي).
وقال ﷺ: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» (رواه أبو داود).
إذن، مقابلة الخدمة المخلصة بالإهانة صورة من صور كفران النعمة ونكران المعروف، وهي مذمومة شرعًا.
—
3. المثل في ضوء التاريخ
3.1 طومان باي (923هـ/1517م)
آخر سلاطين المماليك، قاوم العثمانيين دفاعًا عن مصر حتى أُسر، فوعده سليم الأول بالأمان، ثم نكث عهده، فأُعدم شنقًا على باب زويلة. جزاء إخلاصه لوطنه كان الإهانة والقتل، في صورة تجسّد المثل المصري بدقة.
3.2 نكبة البرامكة (187هـ)
خدمت أسرة البرامكة الدولة العباسية خدمة جليلة في السياسة والإدارة والثقافة، حتى صاروا أعمدة الحكم في عهد هارون الرشيد. لكنهم نكبوا فجأة: قُتل بعضهم، وسُجن آخرون، وصودرت أموالهم. وهكذا كان جزاء إخلاصهم للدولة النكبة والإقصاء.
3.3 الشعراء في بلاط الخلفاء
كثير من الشعراء بذلوا جهدهم في مدح الخلفاء. من ذلك أبو العتاهية الذي مدح الرشيد طويلًا، لكنه لما وعظه وذكّره بالآخرة غضب الخليفة وأمر بحبسه. فكانت مكافأة صدقه نصحه أن يُسجن بدل أن يُكرم.
3.4 وزراء الأكاسرة في بلاط فارس
كان البلاط الساساني مشهورًا بالغدر بالمخلصين. فكثير من الوزراء والمستشارين الذين قدموا خدمات جليلة انتهوا مقتولين أو معزولين حين تغيّر مزاج كسرى أو دبّ فيه الشك، حتى صار منصب الوزارة عندهم يعني غالبًا «المُضحّى به».
3.5 القادة والجنود في روما القديمة
في الإمبراطورية الرومانية، كثير من القادة الذين انتصروا في الحروب جوزوا بالقتل أو النفي بعد عودتهم، خوفًا من نفوذهم الشعبي. ففي عهد الإمبراطور نيرون وغيرِه، تحوّل الإخلاص في خدمة الدولة إلى لعنة تنتهي بالعقوبة، لا بالتكريم.
—
4. مقارنة مع أمثال أخرى
في الثقافة العربية:
«اتق شرّ من أحسنت إليه».
وفي الشام: «بعد العِشرة كفّ عَ الحُمرة».
في الثقافة الغربية:
الإنجليزية: “No good deed goes unpunished” (لا عمل صالح إلا ويعاقب صاحبه).
اللاتينية: “Beneficium accipere libertatem est vendere” (قبول المعروف يعني بيع الحرية).
كلها تعكس التجربة الإنسانية ذاتها: أن المعروف قد يُقابَل بالجحود. لكن المثل المصري يتميز بلهجته الساخرة التي تختصر التجربة في صورة حسية موجعة: «العلقة» كخاتمة الخدمة الطويلة.
—
5. الخاتمة
المثل المصري «آخِر خدمة الغُز علقة» ليس مجرد عبارة عامية، بل هو تعبير عن تجربة إنسانية متكررة: مقابلة الإخلاص بالجحود. وقد جاء الإسلام ليؤكد خلاف ذلك: أن جزاء الإحسان لا يكون إلا بالإحسان. والتاريخ، من مصر إلى بغداد، ومن بلاط كسرى إلى روما، يقدم شواهد كثيرة على صدق هذا المثل الشعبي. وهو في النهاية شاهد ثقافي يجمع بين الحكمة والمرارة، ويعكس حاجة الإنسان الدائمة إلى الوفاء وردّ الجميل.
—
6. مراجع مقترحة
ابن كثير، البداية والنهاية.
الطبري، تاريخ الأمم والملوك.
ابن الأثير، الكامل في التاريخ.
الجاحظ، البيان والتبيين.
المسعودي، مروج الذهب.
عبد الرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار.
إدوارد جيبون، تاريخ سقوط الإمبراطورية الرومانية.
مصادر الأمثال الشعبية المصرية، مثل: أحمد تيمور باشا، الأمثال العامية.