بقلم: د. بكر إسماعيل الكوسوفي
برزت شخصية آدم دمّاتشي في تاريخ كوسوفا كشخصية محورية تمثل التقاء الفكر، السياسة، والأدب في مشروع مقاومة القمع الصربي، وإعادة تشكيل الهوية الألبانية الحديثة. جمع بين القلم والبندقية، وبين سجون الطغيان ومنابر الفكر، ليغدو أيقونة وطنية وأدبية على حد سواء.
أولًا: النشأة والتعليم والتكوين الفكري
ولد دمّاتشي في 26 فبراير 1936 في كوسوفا، وسط بيئة فقيرة وقاسية، لكنه أظهر منذ طفولته علامات الذكاء والاستقلالية، وتميز بسؤال نقدي في سن مبكرة عن التمييز اللغوي بين الألبان والصرب. تلقى تعليمه الثانوي والجامعي في كوسوفا وبلغراد، وبدأ مبكرًا في التعبير عن آرائه الأدبية والسياسية الجريئة، حيث رفض تبعية الأدب الألباني للهيمنة الثقافية الصربية، وساند الأدباء المنفيين كإرنست كوليقي.
ثانيًا: المسار النضالي والسياسي
قضى دمّاتشي أكثر من 28 عامًا في السجن نتيجة مواقفه السياسية الرافضة للتمييز العرقي والداعية لاستقلال كوسوفا. أسس “الحركة الثورية من أجل وحدة الألبان”، وشارك لاحقًا في إنشاء مركز الدفاع عن حقوق الإنسان في كوسوفا، وترأس اللجنة العليا للتسامح والتعايش، ومثل جيش تحرير كوسوفا سياسيًا خلال التسعينيات.
تجلت مواقفه المبدئية حين رفض تصنيف جيش التحرير كـ “منظمة إرهابية”، ورفض مغادرة كوسوفا أثناء قصف الناتو، وأصر على البقاء مع شعبه، مما أكسبه احترامًا شعبيًا ونخبويًا واسعًا، ولقب بـ«مانديلا كوسوفا».

ثالثًا: أدبه وإسهامه في مشروع التحديث
برز دمّاتشي كأديب ملتزم، استخدم الأدب وسيلة لنقد الواقع السياسي والاجتماعي. تميزت أعماله بالواقعية والرمزية، ومن أبرزها رواية “دم الأفاعي”، التي تُعد من أوائل الأعمال التي جسّدت معاناة الألبان تحت الاحتلال، ودعت إلى وحدة الصف الوطني.
أصدر العديد من الكتب التي جمعت بين الطابع الفني والرسالة الوطنية، من بينها:
♦ دم الأفاعي
♦ تحياتي سلسلتي
♦ إنكار الذات
♦ كوسوفا تتحدث عن نفسها
♦ عشرة آلاف يوم عبودية
وتُظهر كتاباته قدرة فريدة على الجمع بين الأدب والفكر السياسي في أسلوب سلس وعميق يعبّر عن واقع شعبه وتطلعاته.
رابعًا: الجوائز والتكريمات الدولية
نال دمّاتشي عددًا من الجوائز الدولية تقديرًا لنضاله وإسهامه الفكري، من أبرزها:
♦ جائزة ساخاروف لحرية الفكر (البرلمان الأوروبي، 1991)
♦ جائزة نوبل للسلام من جامعة مدريد (1994)
♦ دكتوراه فخرية من جمعية التربية العالمية للسلام (1992)
♦ جائزة “ليزيل وألتنبرغ” من جامعة أوسلو (1995)
♦ استضافة رسمية في الكونغرس الأمريكي (1992)
تعكس هذه التكريمات اعترافًا عالميًا بريادته في الدفاع عن الحقوق والحريات، وتجسيدًا لمكانته كمفكر ومصلح عالمي.
خامسًا: أقواله وأفكاره في الإصلاح والتجديد
تميّز دمّاتشي بخطاب إصلاحي أصيل، ومن أقواله البارزة:
♦ “بدون حرية التعبير لا يوجد حوار، وبدون الحوار لا تُكتشف الحقيقة.”
♦ “إن السبيل الوحيد لمنع سفك الدماء هو منح كوسوفا حقها المشروع في الاستقلال التام.”
♦ “إذا كنت تقاتل من أجل الحرية ولست مستعدًا للتضحية بحياتك، فأنت تكذب على نفسك.”
تعكس هذه الأقوال عمق رؤيته الإصلاحية ووضوح منهجه التغييري، الذي جمع بين الإصرار السلمي والحزم المبدئي.
سادسًا: شهادة المفكرين والرمزية الوطنية
أشاد العديد من المفكرين والسياسيين بدمّاتشي، واعتبروه “أسطورة” في النضال السلمي، وأطلقوا عليه لقب “مانديلا الألبان”، باعتباره رمزًا للحرية والكرامة القومية. وأكدوا أن دمّاتشي لم يكن فقط كاتبًا أو مناضلًا بل مؤسسة متكاملة للوعي الوطني.
سابعًا: تقييم عام واستنتاج
تثبت سيرة دمّاتشي ومواقفه وكتاباته أنه رائد أصيل لمشروع الإصلاح والتجديد في كوسوفا، ليس فقط على مستوى الشعارات، بل عبر عمل فعلي طويل ومعاناة شخصية جسيمة. لقد أعاد تشكيل الثقافة الوطنية، وخلق نموذجًا جديدًا للمثقف المناضل، الذي لا يساوم في المبادئ، ولا يتخلى عن أدواته الفكرية.
خاتمة
يشكّل آدم دمّاتشي نموذجًا نادرًا في التاريخ الحديث لمن جمع بين الفكر والممارسة، وبين السجن والحرية، وبين السياسة والأدب، ليكون بحق “رائد الإصلاح والتجديد في كوسوفا”. وتبقى سيرته ومؤلفاته وثيقة حيّة في ذاكرة الألبان، ودليلًا على أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع، وأن الكلمة الحرة هي أول الطريق نحو السيادة والكرامة.
إليك قصيدة بعنوان: “حوار عبر الزمن”
(حوار شعري بين د. بكر إسماعيل وآدم دماتشي)
[من د. بكر إسماعيل إلى آدم دماتشي]:
يَا رَفِيقَ الدَّرْبِ فِي لَيْلِ الطُّغَاةِ
كُنْتَ نَبْضَ القَلْبِ فِي أَحْشَاءِ كُوسُوفَا
سَجَنُوكَ فَصَيَّرْتَ القُيُودَ قَوَافِيًا
وَالمَحَابِسَ مِحْبَرًا.. هَذَا هُوَ الإِبْدَاعُ!
[رد آدم دماتشي (بضمير الغائب)]:
لَوْ عُدْنَا بِالزَّمَنِ المَاضِي لَقُلْتُ:
“إِنَّنَا فِي كُلِّ سُجْنٍ.. نَبْنِي أَمَلًا”
أَنْتَ يَا صَاحِبِي بِالقَلَمِ.. وَأَنَا
بِالسَّجِينِ.. لَكِنَّنَا فِي القَلْبِ قَوْمَةٌ وَاحِدَهْ
[من د. بكر إسماعيل]:
كَمْ سَأَلْتُ الحِبْرَ: هَلْ يَنْسَى الصَّدِيقَ؟
فَأَجَابَ الحِبْرُ: “مَا دَامَ القَلَمُ يَجْرِي
فَالصَّدِيقُ.. فِي السَّطُورِ.. خَالِدٌ
مِثْلَ أَسْمَاءِ الشُّهُودِ عَلَى الجُرُورِ”
[ختام مشترك]:
نَحْنُ لَوْحَتَانِ.. لَكِنَّ المَعْنَى وَاحِدٌ
أَنْتَ بِالسَّجْنِ.. وَأَنَا بِالكُتُبِ
وَكِلَانَا.. فِي سَبِيلِ الحَقِّ..
نَرْسُمُ الكَلِمَاتِ.. حَتَّى تَنْدَثِرَ الكُروبُ
تحليل الحوار الشعري:
1- العلاقة الشخصية:
♦ تظهر الألفة عبر النداء (يا رفيق الدرب) والحديث عن الذكريات المشتركة.
♦ استخدام ضمير المخاطب (أنت) والمتكلم (نحن) يؤكد العمق الإنساني.
2- العلاقة الفكرية:
♦ التكامل بين الأدب والنضال: د. بكر إسماعيل (القلم) × آدم دماتشي (السجن).
♦ وحدة الهدف: رغم اختلاف الأدوات (سجن/كتب)، فالغاية واحدة (تحرير كوسوفا).
3- الرمزية:
♦ الحبر رمز للذاكرة التي تحفظ الوفاء.
♦ اللوحتان ترمزان لاختلاف المسار ووحدة المصير.
لماذا هذا الحوار الشعري مؤثر؟
♦ يوثق حوارًا حقيقيًا كان يمكن أن يحدث بين الرجلين.
♦ يُجسّد الاحترام المتبادل بين المثقف والمناضل.
♦ يُظهر أن النضال متعدد الأوجه) فكري/مسلح).
كلمة أخيرة:
هذه القصيدة هي جنازة شعرية لم يمت فيها الحبّ ولا الفكر، بل تُكرّس فكرة أن العظماء لا يغيبون، بل يتحولون إلى كلمات تُقرأ في كل زنزانة، وفي كل جامعة.
كما كتب د. بكر إسماعي الكوسوفي في يومياته:
“دماتشي لم يمت، لقد صار قصيدة نقرأها كلما اشتدّ الظلام”.
المراجع:
1- بكر إسماعيل، كوسوفا في ميزان المجتمع الدولي، ط. آلبا برس، القاهرة، 2002.
2- بكر إسماعيل، أعلام الفكر الألباني المعاصر، ج1، ط. آلبا برس، القاهرة، 2005.
3.- بكر إسماعيل، الحصاد المر لمذابح كوسوفا، ط. آلبا برس، القاهرة، 2002.
4- بكر إسماعيل، جريدة صوت الأزهر، بتاريخ 23 يناير 2009 م، القاهرة.