في تاريخ الأدب العربي الحديث، يظل اسم محمود محمد شاكر يتوهج كفارس البيان الذي لا يعرف المساومة. كتابه أباطيل وأسمار ليس مجرد رد على مقالات ناقد أو باحث، بل معركة فكرية كاملة، دوّت في الأوساط الثقافية، وأعادت للأمة ثقتها بتراثها ولغتها، وأثبتت أن الدفاع عن الكلمة هو دفاع عن الهوية.
كتبه شاكر في ذروة الصراع الفكري حول أصالة التراث العربي، فجمع فيه بين دقة المحقق التاريخي، وغضبة الغيور، وجزالة البيان، ليصنع نصًا خالدًا لم تفقد صفحاته حرارة المواجهة حتى اليوم.
خلفية النشر وبداية المعركة
بدأت القصة عام 1962 عندما نشر الدكتور لويس عوض سلسلة مقالات بعنوان على هامش الغفران في جريدة الأهرام، اتهم فيها أبا العلاء المعري بتأثر “رسالة الغفران” بآداب أوروبية قديمة، وقلّل من أصالتها العربية.
استفز ذلك محمود شاكر، فكتب سلسلة ردود قوية في مجلة الرسالة، اتسمت بالصرامة العلمية والبلاغة النادرة، ثم جمعها بعد مراجعة وتوسيع في كتابه الشهير أباطيل وأسمار الصادر سنة 1972، ليصبح وثيقة فكرية تدافع عن التراث العربي من التزييف.
فصول ومحاور الكتاب
1- تمهيد في طبيعة المعركة
يشرح الدافع للتصدي لهذه الأفكار، وخطورة السكوت عن محاولات التشويه.
2- تحليل نصوص “رسالة الغفران”
رد تفصيلي يثبت أصالة النص وعبقرية المعري، وينقض فرضيات التأثر الأجنبي.
3- مناهج البحث العلمي
بيان قواعد التحقيق الأدبي والتاريخي، وفضح الانتقائية والانحراف عن الأمانة العلمية.
4- المستشرقون وأتباعهم
كشف أثر المدارس الاستشراقية في صياغة رؤى مناقضة للهوية العربية.
5- لغة العرب بين النهوض والانكسار
دعوة لاستعادة مكانة العربية، ورفض أي عبث بها.
أهم المقولات في الكتاب
“الحق واحد لا يتجزأ، ومن فرّق بين الحقائق ليُرضي هواه فقد خان العلم”.
“أمة لا تملك غير لغتها، فإذا أضاعتها، أضاعت نفسها”.
“الأمانة في البحث ليست ترفًا، بل هي جوهر العلم، ومن خانها فقد باع نفسه للباطل”.
“منهج البحث هو الحصن الأخير للأمة، فإن انهار، انهار كل شيء”.
أهمية الكتاب وأثره
مرجعية نقدية: مثال على خوض المعارك الفكرية بمنهج صارم ولغة رفيعة.
حماية الهوية: أعاد الاعتبار للنصوص العربية الكبرى، ووقف سدًّا أمام محاولات التشويه.
تأسيس وعي لغوي: أكد أن اللغة ليست وسيلة للتواصل فحسب، بل وعاء الحضارة.
فضح الأجندات الخفية: كشف البعد الثقافي والسياسي الكامن وراء بعض الطروحات الأدبية.
إرث بلاغي: نصوصه بلغت ذروة الفصاحة، وصارت نموذجًا يُحتذى في النقد الأدبي.
لماذا يظل صالحًا لكل العصور؟
رغم مرور أكثر من نصف قرن على صدوره، يبقى أباطيل وأسمار كتابًا معاصرًا؛ لأن القضايا التي تناولها شاكر ما زالت قائمة:
معركة الهوية: ما تزال الثقافة العربية تواجه موجات من التغريب والسطو الفكري.
تزييف التاريخ والأدب: تتكرر محاولات إعادة قراءة التراث من منظور منقطع عن أصوله.
حرب اللغة: الهجمات على العربية تتجدد بأساليب جديدة، لكنها تتشابه في جوهرها مع ما واجهه شاكر.
إن قراءة هذا الكتاب اليوم ليست مجرد عودة إلى الماضي، بل هي استعداد لمعركة الحاضر والمستقبل.
ردود الفعل النقدية عند صدوره
أثار الكتاب، فور صدوره، جدلًا واسعًا بين الكتّاب والنقاد:
المؤيدون: أشاد به أعلام الفكر العربي مثل مصطفى صادق الرافعي (بعد وفاته بأقوال من تراثه)، وعبد السلام هارون، وأنور الجندي، معتبرين أنه نموذج فريد للمواجهة الفكرية الشريفة، ودليل على أن العربية ما زالت قادرة على إنتاج نصوص حية تقارع الحجة بالحجة.
المعارضون: انقسموا بين من رأى أن أسلوب شاكر كان حادًا أكثر من اللازم، ومن دافع عن لويس عوض بدعوى حرية البحث والنقد.
لكن الاتفاق العام كان أن الكتاب كشف عن أزمة منهج في الدراسات الأدبية، وأجبر الجميع على إعادة النظر في أسس البحث العلمي.
أباطيل وأسمار ليس فقط ردًا أدبيًا، بل هو بيان حضاري، يعلّم أن قوة الأمة تبدأ من وعيها بتاريخها ولغتها، وأن الكلمة إذا حُملت على الحق، فإنها تبقى أقوى من أي سيف.