“أبو خطوة”.. قصة: د. ياسر عبد التواب
لأنه أصبح رجلا فقد جرّبَ السهر خارج البيت، التقي بأصدقائه فأوغلوا حتى اقتربت الساعة من الواحدة
وعاد وهو منتش من التجربة يداعب لحية لما تنبت، ويداري قلقا من التجربة.. أفهذه البلد التي أعرفها وأحفظ طرقها وبيوتها وكأني بها غريبة على!
الأشجار على حافة النيل تتربص بي والرياح تمر رتيبة على سطح النيل فتحركه، فأشعر برهبة تسري في جسدي.
أطلّ على صفحة الماء.. فأحسَّ بقشعريرة تراوده بعدما طالع السواد البادي عليه، وإذا بخاطر يقفز إلي رأسه قال: ومالي الآن بالست أم محمد كريمة
والست كريمة امرأة عجوز كانت تجمعهم أيام الطفولة قبيل المغرب عند رأس الشارع فتحكي لهم ما جادت به قريحتها الخصبة
عن المارد صاحب العين المشقوقة
وذي الوجه الأسود الذي يسد الأفق فلا يملك الفتي منه فكاكا إن هرب منه يمينا أو يسارا وجده أمامه.
وكانت تحدثهم عن جنية البحر “أمّ شوشه” ذات الرأس الكبير والوجه القبيح والشعر المنكوش، كيف أنها تستدرج الفتيان إلي البحر ليكلموها، فتبدو لهم في شكل جميل حتى إذا أفلحت الانفراد به جرّته معها إلى جوف البحر
كانوا يجلسون أمام (أم محمد كريمة) كل يومٍ في شغف لتقص عليهم قصصها التي لا تنتهي..
فيرعبون رعبا قد أدمنوه وآنسوه
فبرغم الخوف يعودون مساء اليوم التالي ليعاودوا الاستماع ولترتعد فرائصهم ..
لا يزال يذكر كيف أنه كان يهرع فارًا تلك المسافة أول الشارع إلي بيته – في منتصفه – في سرعة المرعوب حتى إذا خلا بسريره عاوده الرعب كابوسا يهزه فيحرمه النوم فلا ينقشع عنه إلا عند تنهد الصباح مع آذان الفجر ..
قال لنفسه: لقد صرتُ رجلا فما لي بذكريات الطفولة، ومالي بذكرها الآن؟.
كان عليه أن يعبر فوق (كوبري زفتى) الذي يربط بين بلدته زفتى وميت غمر، سأعبر فوق الماء نفسه في ذلك الظلام !
قالها ثم أردف: وآه من أم شوشه وبنات الحور الذين يمسكون القمر فلا يدور.. عند أول خطوة أحس بقشعريرة فقال: فلأصرف عني تلك الهواجس ولأتكلم عن شئٍ ما أقطع به الصمت والطريق
قال: ما هو
فكر ثم رد: عن أي شئ..؟
فليكن الكلام عن الكلام عن أي شيئ.. العين.. القدم مثلا
بعض بيوت البلد تطل على الكوبري؛ أحس بشيء من الطمأنينة لرؤيتها..
تنحنح كهيئة من سيلقي خطبة، ثم أردف مقلدا صوت مدرس جهوري الصوت كان يدرّسه مادة ما، لم يتذكرها من الخوف..
تقدم خطوات على الكوبري وهو يتحاشى النظر إلي الماء
ثم قال: للقدم فوائد كثيرة فهي تحفظ الاتزان
نظر أمامه وهو يفكر ثم أضاف: والإنسان يختلف عن الحيوان، فقدمه ذات خمسة أصابع، وهي من الجلد، تحلّيها أظافر تحميها من الصدمات و..
نظر أمامه ثم وقف مذهولا، كان الذي أسكته خيال رآه ممتدا على الكوبري أمامه
أزدرد ريقه فلم يجده في جوفه أذهبه الذعر فقد كان الخيال الذي رآه لقدم كبيره ضخمة تمتد أمامه فتملأ الطريق بأكمله، خيال قدم طوله يقارب الخمسين مترا، اهتزت كل ذرة في كيانه، فركَ عينيه ثم أعاد النظر.
أقدمٌ يراها أمامه وهو يتحدث عن القدم .. لأي كائن هي.. رباه
عادت إلى ذهنه كل صور الرعب التي كان يطردها عن نفسه، عاد صوت أم محمد كريمة يعوي في أذنه ..وفزعه قبل الفجر، المارد الأحمر وصاحب العين المشقوقة، وذو الوجه الأسود، وأم شوشة وبنات الحور، وأبو رجل مسلوخة، والأشباح السوداء، والفتاة ذات أرجل الماعز، كلهم جاؤوا يزعقون ويتراقصون أمام عينيه وهو آخذ في الأنهيار كلوح ثلجي لفحه حر الشمس.
وهاهو متسمر مكانه قد جحظت عيناه ينظر إلي خيال القدم أمامه وهو لا يكاد يصدق لقدم تتحرك والأصابع تهتز
وهو يهتز ارتجافا
بسم الله بسم الله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قالها باستغاثة رافعا رأسه إلي السماء: يا رب.. يا رب ارحمني
الخيال لا يزال مكانه بيد أنه شعر بطمأنينة سرت في نفسه مع ترديده للذِكر
ندت منه التفاتة إلى أعلي حيث البيت خلفه، ثم نظر إلى الأرض مرة أخري ثم استدار مرة أخرى مبتسما؛ إذ رأى ساكن إحدى الشقق في البيت قد أخرج قدمه من النافذة فانعكست صورتها على الأرض ممتدة مع بُعد المسافة بين البيت والكوبري.
عاود سيره وهو يكرر الحمد وقد عزم أن يخبر أم محمد كريمة بما رأى لعله يلهمها بقصص أخرى حول عفريت أبو خطوة.