أحمد الشريف يكتب: إيران وفلسطين.. ووضع النقط على الحروف (١)

«إن أول من اتهمنا بأننا ننفذ أجندة إيـرانيـة وإننا جماعة موالية لإيـران والشيعة هم الإخـوة في حـركة الإخوان المسـلمين بقطاع غـزة الذين أنشأوا فيما بعد حركة حـمـاس»!
د/ رمضـان شـلّـح [١]
الأمين العام للجـهـاد الإسـلامي
«أنا الحسين بن علي.. وها هم أتباع يزيد بن معاوية في الوطن العربي، ضربوا من حولنا الحصار، وقطعوا عنا المياه، ومضوا فينا تقتيلًا يريدون لنا الفناء»!
ياسـر عرفـات [٢]
رئيس منظمة التحرير الفلسطينية
«لولا دعم إيران للمـقـاومـة في فـلسـطين لما امتلكنا هذه القدرات، نعم.. لقد تخلت عنا أُمَّتنا في اللحظات الحرجة والصعبة، ودعمتنا إيران بالمال والسلاح والعتاد والخبرات»!
يـحـيـي الســنوار [٣]
رئيس المكتب السياسي لحـمـاس
هذه العبارات الثلاث متناقضة وصادمة عند الكثير من الناس ولا يمكن الجمع بينها بيسر وسهولة رغم كونها صحيحة تماماً، إلّا لمن استوعب قصة الدولة الإيرانية الحديثة في مرحلتيها الشاهانية والجمهورية الإسلامية، وسيرتها مع القضية الفلســطينية منذ إنشاء دولة الكيان الصـهيوني، وحتى وقتنا الحالي الذي نعيش فيه تداعيات معركة “طوفان الأقصى” منذ ٢٠٢٣/١٠/٧م.
وسوف نبدأ القصة من شهر أغسطس سنة ١٩٤١م بعد سنتين من نشوب الحرب العالمية الثانية، حين قامت قوات دول الحلفاء بقيادة بريطانيا والاتحاد السوفيتي بالدخول إلى “إيران” من أجل إجبار شاه إيران “رضا بهلوي” على التنازل عن العرش لولي عهده صاحب الـ٢٢ عاماً “محمد رضا”، بسبب سياسته المنحازة إلى الألمان، ثم طرده إلى الهند ومنها إلى جنوب أفريقيا التي ظل فيها إلى أن مات سنة ١٩٤٤م!.[٤]..
ولذلك بمجرد نهاية الحرب سنة ١٩٤٥م، وَعَى “محمد رضا” تمامًا درس إكراه والده على التخلي عن عرش الطاووس بقرار صادر من لندن وموسكو، فاتجه إلى “التقارب” مع الولايات المتحدة الأمريكية الوجه الجديد الذي ارتبطت به أحلامه المستقبلية..[٥].
وهو ما تحول من مجرد تقارب إلى #تبعية_مطلقة، وخاصة بعد أن أسقطت المخابرات الأمريكية حكومة الدكتور “محمد مصدق” الوطنية المعارضة له، والتي كانت قد قامت بسلسلة من التشريعات لصالح الطبقة الشعبية من أبرزها تأميم النفط وتحويل عائداته كلها لصالح النهوض بالأمة الإيرانية سنة ١٩٥١م، ومن ثمّ اصطدمت المصالح الغربية التي كان يرعاها “الشاه” مع وجود حكومة “مصدق” في السلطة، مما أسفر عن أزمات سياسية كبيرة غادر نتيجتها “الشاه” البلاد إلى إيطاليا في أغسطس ١٩٥٣م، وخرجت الجماهير إلى الشوارع تحطم تماثيله وتنادي بحياة “مصدّق” وبسقوط الملكية..[٦].
وبذلك أصبح الشاه يدين بالفضل إلى السفير الأمريكي “هندرسون” الذي جعل السفارة مركزاً للعمليات من أجل إسقاط “مصدق” بمؤامرة استخباراتية يقودها ضابط وكالة المخابرات الأمريكية “كيرميت روزفلت” والتي نجحت في إرجاع “الشاه” تارة أخرى لسدة الحكم، والقبض على الدكتور “مصدق” وإيداعه السجن!.[٧]..
وعاد الشاه منتصرًا إلى العاصمة طهران ولديه رغبة أكثر من ذي قبل في إقامة ديكتاتورية عسكرية معتمدة على جهاز مخابرات إيراني قوي ومدعمة بقوة بوليسية متفوقة. ونجح بالفعل في تشييد جهاز “الساواك” بالاستعانة بخبرة ضباط المخابرات الأمريكية وكذا عملاء الموساد الإسـرائيلي.[٨]..
وكان هذا أول تعاون رسمي بين طهران وتل أبيب بعد عودة العلاقات بينهما بعد فترة التوتر والجمود أثناء حكم الدكتور “محمد مصدق”، فقد كانت إيران ثاني دولة مسلمة تعترف بإسرائيل بعد تركيا في بداية العام ١٩٥٠م، وكان من أسباب سقوط حكومة مصدق بالإضافة إلى تأميم النفط هو السعي إلى إلغاء هذا الاعتراف.
وهو الاعتراف الذي لم يكن مستغربًا في ظل توطد العلاقات الصهيونية مع إيران حتى قبل الإعلان عن قيام إسرائيل في مايو سنة ١٩٤٨م، والذي ندلل عليه بذلك التقرير الذي بعثه وزير الخارجية الإيراني “عنايت الله سميعي” إلى مكتب “الشاه”، في بداية الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وجاء فيه: «ليس في مصلحة الحكومة الملكية تحديد الهجرة، واسترضاء البلدان العربية. فتجمع اليهود في هذا البلد الذي هو من أهم المواقع وقلب الوطن ومركزه، مفيد لإيران من حيث الجانب السياسي فضلاً عن المنافع الاقتصادية. فوجود هذا الشعب اليهودي الجاد الذي يتميز بالبراعة في جميع الفنون والعلوم، وتربطه بإيران خلفية تاريخية متألقة، يعدّ عائقًا كبيراً أمام تأسيس قوة عربية متحدة، يمكن أن تهدد في المستقبل السواحل الجنوبية والحدود الغربية لإيران..»، وهو ما يثبت انحياز إيران الشاهانية الواضح إلى جانب الصهيونية وسعيها إلى تأسيس دولة غير مسلمة في فلسطين.[٩]..
وقد تطورت علاقة نظام الشاه بإسرائيل إلى مستويات عالية على الصعيد الاقتصادي والتجاري والعسكري والتنسيق الأمني للدرجة التي جعلت من جميع جنرالات الجيش الإيراني يزورون إسرائيل، كما تلقى مئات الضباط الإيرانيين دورات تعليمية هناك، دعمت التوأمة بين “الموساد” وجهاز “السافاك” الدموي الذي ألقى القبض على قطاعات عريضة من القوى الشعبية الممثلة في زعماء العشائر وأعضاء الجبهة الوطنية ورجال الدين النشطين، مما أدى إلى اندلاع مظاهرات عارمة في يونيو سنة ١٩٦٣م يقودها المرجع الديني آية الله “الخميني” في ظهوره الأول البارز كمعارض لحكم “الشاه”، حيث خطب في الجماهير بمدينة “قم” (مركز الحوزات الدينية في إيران) خطابا عنيفا ندد فيه بالشاه ونظام حكمه وخاطبه دون ألقاب وسماه بالبائس والطفيلي، وذكّره باليوم الذي يثور الشعب فيه عليه لن يساعده أحد من رفاقه وبطانته الانتهازيين، لأنهم ليسوا أصدقاء أحد، وإنما أصدقاء الدولار وليس لهم دين ولا وفاء. وعلى إثر ذلك انفجر بركان السخط في قم وطهران، وخرجت الجماهير الغفيرة تهتف: ليسقط المتجبر لتسقط إسـرائيل! [١٠]
ولم يكن هذا الهتاف نابعا من كراهية إسرائيل بسبب دعمها للشاه وديكتاتوريته فحسب بل لأن القضية الفلسطينية تظل وجدانيا إسلامية بالدرجة الأولى في قلب كل مسلم منتم لإسلامه بغض النظر عن تباين المذهب واختلاف المرجعيات. وفي التاريخ الإيراني فإن أول رد فعل لاحتلال فلسطين سنة ١٩٤٨، خرج من جبهة الفقهاء دون غيرهم. حيث خرجت مظاهرات كبيرة يقودها آية الله “كاشاني” الذي قام بحملة لجمع الأموال ومحاولة تجنيد وإرسال المتطوعين لمقاومة إسرائيل على غرار ما كان يقوم به الإمام “حسن البنا” في مصر في نفس التوقيت!.[١١]..
ومن المفارقات المؤسفة في هذا الصدد أن الصورة المتكونة عن الشاه في عموم الذاكرة العربية هو ما أشاعه الرئيس “السادات” من موقفه الداعم أثناء حرب أكتوبر المجيدة ضد إسرائيل في العام ١٩٧٣م، في حين تم السكوت عن دوره المناوئ للعرب والداعم لإسرائيل، حيث منع مرور الطائرات السوفيتية المحملة بالسلاح لمصر وسوريا، من المرور في الأجواء الإيرانية أثناء الحرب، فضلا عن تعهده إبان مفاوضات فض الاشتباك بدعم وتعويض إسرائيل عما قد ينشأ من نقص في إمداداتها النفطية!.[١٢]..
ومع نهاية حقبة السبعينات زاد طغيان الشاه وظهر تفريطه في مصالح شعبه في ظل التبعية للغرب ومنح الامتيازات للمواطن الأمريكي داخل إيران، فضلا عن التعسف في التعامل الأمني مع المواطنين والتوسع في الاعتقالات مع انتشار فساد رجال الدولة والبذخ في الإنفاق في ظل سوء الأحوال الاقتصادية، مما أدى في النهاية إلى اندلاع ثورة عارمة انتهى معها شهر العسل الإيراني الأمريكي حين اقتحم أتباع “الخميني” السفارة الأمريكية بطهران في ٤ نوفمبر ١٩٧٩م، واحتجزوا نحو ٦٦ رهينة أمريكية داخلها لمدة ٤٤٤ يوماً احتجاجا على الدور الأمريكي الداعم للشاه على حساب الشعب الإيراني.
وقد كان هذا هو الحدث الأبرز للثورة الإيرانية والمدبر من قبل قائد الثورة “الخميني” بعد سنة كاملة من بدايتها الفعلية في يوم الجمعة ٨ سبتمبر ١٩٧٨م عندما تحولت ساحة البرلمان إلى ساحة للشهداء عقب تدخل الجيش من أجل تفريق المتظاهرين الرافضين لحكم الطاغوت.. ومن ثمّ انقطعت على أثره العلاقات الاستراتيجية والدبلوماسية الأمريكية مع نظام الخميني، فتبنت أمريكا صورًا عديدةً لمعاقبة إيران على شاكلة تجميد أصولها المالية في البنوك الأمريكية ومنع تحويل عائدات الإيرانيين المقيمين في أمريكا من الوصول إلى إيران ووقف كل علاقات التبادل التجاري بينهما، فضلا عن تقديم الدعم الاستراتيجي واللوجستي للعراق زمن “صدام حسين” في حربه الطويلة ضد إيران التي دامت ثماني سنوات كاملة (١٩٨٠-١٩٨٨م).[١٣]..
في الأخير لا بد من التنويه إلى الحدث الأهم الذي نختم به الجزء الأول من المقال ونبدأ من عنده المقال القادم والذي واكب الأيام الأولى التي انفجر فيها البركان الشعبي مطلع العام ١٩٧٩م، فهو اقتحام مقر البعثة الإسرائيلية الذي كان هدفا للجماهير التي تحينت الفرصة لتصفي حسابها مع مختلف رموز الطغيان والمهانة والظلم.
وهو ما تم بعفوية دون تحريض من أحد حيث كانت الجماهير تعدّ إسرائيل كيانا غير شرعي ومرضًا غريبًا في جسد فلسطين المسلمة، وقد كانت تهتف بأعلى صوتها أثناء الأيام الأولى للثورة العظيمة:
“اليوم إيران.. غدًا فلسطين”. [١٤]..
ومن ثمّ عندما فرّ الشاه –بغير عودة– إلى أسوان بمصر في ١٦ يناير ١٩٧٩، وعاد آية الله “الخميني” من المنفي ليعلن في ٥ فبراير ١٩٧٩م زعامته للثورة وقيادته لها، كانت أول طائرة من مسؤول غير إيراني تهبط في إيران في ١٩ فبراير ١٩٧٩م، للتهنئة بنجاح الثورة تقلّ وفداً فلسطينياً بقيادة الزعيم “ياسر عرفات” رمز المقاومة والثورة الفلسطينية آنذاك.
أما كيف كانت العلاقة بين منظمة التحرير والثورة ومراحلها المختلفة من التقديس والتقارب إلى الجفاء والمخاصمة؟..
ولماذا ومتى تحول الدعم إلى الجهاد الإسلامي وحركة حماس؟!.
وكيف نجحت الثورة في ضرب الهيمنة الإسرائيلية على مثلث القوى الذهبي في المنطقة المكون من تركيا وإيران ومصر، الذي اكتمل بدخول مصر في مظلة التطبيع والخضوع في اتفاقيات كامب ديفيد سنة ١٩٧٨م؟!.
فهذا ما سوف نتناوله في المقال القادم بعد هذه المقدمة البسيطة التي تعرفنا فيها على الخطوط العريضة لجذور القضية وتسلسلها التاريخي في الذاكرة الإيرانية..
كتبه الفقير إلى عفو الله/ أحمد الشريف
١٦ ديسمبر ٢٠٢٣م / ٣ جمادى الآخرة ١٤٤٥هـ
#معركة_الوعي_أم_المعارك
هوامش المقال:
[١] حركة الجـهاد الإسـلامي في فلسـطين حقائق ومواقف، رمضان عبد اللّـه شـلّـح، صـ٧١، مؤسسة الأقصى الثقافية، ط. دمشق ٢٠٠٧م
[٢] إيران من الداخل، فهمي هويدي، صـ٣٦٦، مركز الأهرام للترجمة والنشر، الطبعة الرابعة، سنة ١٤١٢هـ/ ١٩٩١م..
[٣] كلمة يـحيي السـنوار، أثناء المؤتمر الدولي لدعم الانتفاضة الفلسطينية في يوم القدس العالمي بتاريخ ٣٠ مايو ٢٠١٩م..
[٤] إيران من الثورة الدستورية حتى الثورة الإسلامية [١٩٠٦-١٩٧٩]، طلال مجذوب، صـ٣١٠، دار ابن رشد للطباعة والنشر.
[٥] تاريخ إيران السياسي بين ثورتين، د/ آمال السبكي، صـ١٥٠، سلسلة كتب عالم المعرفة، الكويت أكتوبر ١٩٩٩م.
[٦] طلال مجذوب، مصدر سابق، صـ٣١٩.
[٧] مصدق والصراع على السلطة في إيران، هوما كاتوزيان، صـ٢٩٢:٢٨٢، جداول للنشر والترجمة، بيروت سنة ٢٠١٤م.
[٨] د/ آمال السبكي، مصدر سابق، صـ١٧٢
[٩] إيران والمشرق العربي.. مواجهة أم تعاون؟، سركيس أبو زيد، صـ٦٤-٦٥، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت سنة ٢٠١٠م.
[١٠] موسوعة تاريخ إيران، د. حسن كريم الجاف، جـ٤ صـ٢٧٦، الدار العربية للموسوعات، بيروت ١٤٢٨هـ/٢٠٠٨م..
[١١] إيران من الداخل، فهمي هويدي، صـ٣٦٥، نقلا عن مقال “دور العلماء المعارض في السياسة الإيرانية المعاصرة”، حامد الغار، بحث في كتاب إيران [١٩٠٠-١٩٨٠]، صـ١٨٦..
[١٢] باشوات وسوبر باشوات، د/ حسين مؤنس، صـ١٩٢، طبعة الزهراء للإعلام العربي، سنة ١٩٩٤م.. و”الشاه وأنا”، مذكرات “أسد الله علم”، صـ٤٣٩. و”السادات وكامب ديفيد”، د/صلاح العقاد، صـ١٥١، مكتبة مدبولي، ١٩٨٤م.
[١٣] إيران في الحسابات الاستراتيجية الأمريكية: من الاحتواء المزدوج إلى الشرق الأوسط الجديد، أيمن يوسف، مجلة اتحاد الجامعات العربية، مجلد ٥ صـ١٥٦، العدد الأول لسنة ٢٠٠٨م..
[١٤] سركيس أبو زيد، مصدر سابق صـ٧٢..