الأحد أكتوبر 6, 2024
بحوث ودراسات

أحمد الشريف يكتب: إيران وفلسطين ووضع النقط على الحروف (٢)..

مشاركة:

في الجزء الأول من هذا المقال تناولت العلاقة بين إيران وإسرائيل أثناء فترة حكم شاه إيران “محمد رضا بهلوي” التي استمرت لنحو أربعين سنة [١٩٤١-١٩٧٩م] مبينًا كيف كانت الشراكة الكبيرة بينهما التي أدت إلى تأليب الشعب عليه وسخط رجال الدين حيث كانت قضية فلسطين من أهم القضايا عند علماء الإسلام من المذهب الشيعي، مثلما هي مكانتها في ضمير نظرائهم من المذاهب السُّنية.

ففضلا عن موقف آية الله “كاشاني” الذي نوهت إليه من جمع الأموال وتجنيد الرجال لصالح الجهاد في فلسطين إبان حرب النكبة سنة ١٩٤٨م، كانت جهود أعلم علماء النجف “محمد حسين آل كاشف الغطاء” بارزة في هذا المضمار. وفتواه بتحريم بيع الأراضي الفلسطينية وأن عملية البيع حرب لله وللرسول ﷺ وضرب للدين الإسلامي. ومن يقوم بها يعد خارجًا عن دائرة الدين وجزءًا من الكفار، فلا يتزوج من نساء المسلمين ولا يدفن في مقابرهم، شاهدة على ذلك.

كما رأس الشيخ “آل كاشف الغطاء” اجتماعا لثلة من علماء الأمة في ١٥ يونيو سنة ١٩٣٨م بمدينة “النجف” –قبل النكبة بعشرة أعوام كاملة– أصدر فيه بياناً حاسمًا يدعو الأمة للجهاد قائلا: « أيها المسلمون وأيها العرب، لقد بات واضحا للعيان الوضع الذي آلت إليه فلسطين الذبيحة. وقد قلنا من قبل وسنقول أيضا بأن قضية فلسطين لا تتعلق بفلسطين وحدها.. فقد أصبح الجهاد في فلسطين دعوة عامة أوجهها إلى العرب والمسلمين. ويشهد الله أنني تجاوزت العقد السادس من عمري، ولولا ازدياد العلل على عظامي النخرة، لكنت أول من لبّى هذه الدعوة» [١]..

ومن ثمّ فليس من المستغرب أن تحتل القضية الفلسطينية مكانة بارزة في وجدان الشعب الإيراني. خاصة مع تبلور أبعادها في كتابات مفكر الثورة الدكتور الشهيد “علي شريعتي” الذي اعتبر صراع المسلمين الأساسي يجب أن يكون مع الصـهيونية، ومهمتهم الأساسية هِىَ تحرير فلسطين، وتمحورها أيضاً في خطب ورسائل آية الله “الخميني” المرجع الديني الأعلى وقائد الثورة الإسلامية التي أنهت الحكم الشاهنشاهي في إيران. حيث وصف “الخميني” وجود دولة إسرائيل بأنه جاء نتيجة لتآمر القوى الاستعمارية العالمية، واعتبر الصراع مع إسرائيل عقائديا وحضاريا وليس مجرد صراع حدودي أو سياسي. وحذّر من أن هدف الصهيونية هو القضاء على كل الفلسطينيين وتدمير كل الدول الإسلامية.[٢]..

وقد قام “الخميني” بمهاجمة “الشاه” بحدة بالغة في هذه الناحية وفي مناسبات عديدة منها قوله: «هل ينبغي للشعب الإيراني أن يحتفل بإنسان يخون الإسلام ومصالح المسلمين ويعطي البترول لإسـرائيل.. اليهود اليوم بلغوا مرحلة من النفوذ تهدد المسلمين بالفناء وإن سوق المسلمين في سبيلها إلى الاختفاء، لقد أقامت إسـرائيل في إيران قاعدة قوية وأحكمت قبضتها على المنطقة».

ولما جاءته رسائل التحذير من “السافاك” جهاز مخابرات الشاه الباطش، من أجل الامتناع عن الحديث عن الشاه وإسـرائيل في خطبه. فضح الرسالة في خطبته التالية بمسجد “فاطمة” ساخرًا: «ما معنى هذا؟ لماذا لا يسمح لي بمهاجمة إسرائيل؟ هل للشاه والد إسرائيلي أو أم يهودية؟!.».[٣]. مما دفع الشاه إلى اعتقاله لبضعة أشهر قبل إطلاق ونفيه خارج البلاد في سنة ١٩٦٤م بسبب الضغوطات والمظاهرات الشعبية العارمة.

ولذلك كان مهاجمة الثوار لممثلية إسرائيل الدبلوماسية بإيران في يوم الأحد ١١ فبراير ١٩٧٩م، ورفع العلم الفلسطيني عليها ووضع لافتة تشير إلى أنها أصبحت جمهورية فلسطين،[٤] أمرا طبيعيا له دلالة كبيرة على توجهات الثورة الإسلامية في إيران. دخلوها قبل ٩ أشهر كاملة من اقتحام السفارة الأمريكية عدوتهم اللدود في نوفمبر من نفس العام.

ولكي ندرك دلالة الأمر يجب أن نعلم أنه رغم العلاقة القوية التي جمعت إيران الشاهنشية بإسرائيل وأنها ثاني دولة مسلمة تعترف بها بعد تركيا الكمالية، فإنها لم تجرؤ على تحويل مقر البعثة الإسرائيلية لديها إلى سفارة، وتم الاتفاق على جعلها ممثلية إسرائيل في طهران مع عدم رفع العلم الإسرائيلي مراعاة لمشاعر الأمة الإسلامية والعربية.

وهو ما ارتضته إسرائيل بل ورحبت به حيث كانت تعاني بشدة منذ نشأتها من مقاطعة الدول العربية والإسلامية وحلفائها في العالم، حتى أن “موشي شاريت” وزير خارجية إسرائيل [١٩٤٨-١٩٥٦م] كان يردد وقتها: «نعيش اليوم في انزواء مدمر وليس لدينا أي تبادل للزيارات مع البلدان المجاورة.. ولا يوجد أحد من جيراننا يعترف بوجودنا.. فلن نستطيع تجاهل القلق والخطر اللذين يسببهما الانزواء لشعبنا»..

كما تحدث “موشي دايان” عن الوضع الجيوسياسي الصعب لإسـرائيل، قائلا: «الوضع غير الحصين الفريد الذي فرضته علينا الجغرافيا يتفاقم بواسطة العداء الشديد لجيران إسرائيل. ومصطلح الأمن الحدودي ليس له معنى في الجغرافيا المحيطة بنا. فجميع بلادنا عبارة عن حدود، وجميع مناطقه حدود. ولا يوجد من حولنا بلد واحد يتعهد بشكل جاد ومحدد بالدفاع عن إسـرائيل قبال العدوان عليها».[٥]..

وعلى هذا الأساس كان تحطيم جدار العزلة والانزواء أهم الأهداف الجوهرية في السياسة الخارجية الإسرائيلية، ومنه جاءت أهمية علاقاتها بإيران وتركيا وإثيوبيا، فهى الدول التي تحيط بالدول العربية التي تطوقها (مصر وسوريا والأردن ولبنان والعراق)، ومن خلالها تستطيع إسـرائيل إيجاد سياسة محيطية تنفذ منها إلى العالم العربي طبقًا لاستراتيجية “بن جوريون” أول رئيس وزراء لدولة الكيان الصهيوني..

لذا حرصت إسـرائيل بقوة على علاقتها بإيران وكان مقرها هناك أكبر من السفارات والقنصليات المتعارف عليها بين الدول، حيث امتلكت إسرائيل بناية كاملة لتقيم فيها كما جاء في التقرير الذي نشرته هآرتس عام ١٩٦٦م للصحفي “زيب شيفي”، ممثلية سياسية كبرى تتألف من ٢٠٠ أسرة، وتعدّ إحدى أكبر بعثات إسـرائيل في الخارج!.[٦].

ولقد استفادت إسرائيل بصورة كبيرة من علاقتها بالشاه وخاصة في صلته الحميمة برئيس مصر “أنور السادات”، في ضرب الحصار المفروض عليها. وهو ما نجحت فيه بالفعل وبصورة مبهرة جعلت من القادة الإسـرائيليين الذين عدَّوا توقيع “السادات” لمعاهدة السلام في عام ١٩٧٩م بمثابة الميلاد الثاني للدولة العبرية صائبين تماما. فلا يوجد بلد انتفع بالسلام الذي انبثق عن “كامب ديفيد” مثل إسرائيل التي انفتحت على العالم وخاصة في آسيا وأفريقيا، ولم يتضرر من السلام بلد مثل مصر التي لم تفقد دورها كزعيمة للعالم العربي في الصراع مع إسرائيل فحسب، وإنما طردت من الجامعة العربية وعاشت حالة الانزواء أيضا.

ولذلك كانت الثورة الإيرانية طعنة قاتلة للدولة العبرية، وقد سُئِلَ “الخميني” بعد عودته من المنفى وسيطرته على نظام الحكم في إيران عن استمرارية علاقات إيران الخارجية مع الدول التي دعمت “الشاه” فأجاب بحسم: نعم كل العلاقات واردة ما عدا إسـرائيل، إسرائيل مستثناه، وكذلك جنوب أفريقيا التي تدعم التمميز العنصري. وأضاف موضحا: إسرائيل غاصبة، ولن يكون هناك علاقة بين إيران وهذه العصابة الغاصبة، فمن هو المستعد لبيع النفط لدولة مجرمة.[٧].

وفي نفس الوقت الذي خرجت فيه مصر من دائرة الصراع واتجهت إلى الخضوع والتقزم والسكون في الحظيرة “الصهيو-أمريكية”، كانت طائرة الزعيم الفلسطيني “ياسر عرفات” تهبط في طهران ليعلن مباركته للثورة وتحرر إيران من الاستعباد الأمريكي ويستلم مقر البعثة الإسـرائيلية في طهران مع وفد فلسطيني من رجال منظمة التحرير الفلسطينية.

وقد خرجت الجماهير بحشودها الضخمة يوم ١٩ فبراير ١٩٧٩م لاستقبال ياسر عرفات رمز الثورة الفلسطينية في انفعال هستيري مُرحبة به وبرفاقه الثمانية وخمسين –سلالة الصحابة والتابعين في الخيال الإيراني– والذين أصيبوا بالدهشة والذهول من حملهم على الأعناق وتجاذب الإيرانيين لكوفياتهم المرقطة حتى يمزقوها وهم يتنافسون للفوز بقطع صغيرة منها على حد تعبير الأستاذ “فهمي هويدي” الذي عاش تلك الأجواء هناك كصحفي مصري يرى كيف كانت بطاقة “فتح” أو منظمة التحرير الفلسطينية تفتح كل الأبواب وتعبر كل الحواجز وتنفذ كالسهم إلى القلوب بينما يُنظر إليه بارتياب وعدم ارتياح بسبب موقف السادات المؤيد للشاه والمسالم لإسـرائيل!.[٨]..

ومن هنا بدأت العلاقة بين الثورة الإسلامية في إيران وبين المقاومة في فلسطين الممثلة وقتها في منظمة التحرير وزعيمها “ياسر عرفات” الذي فوجئ بمحاضرة من آية الله”الخميني” في أول لقاء جرى بينهما عن ضرورة تخلي منظمة التحرير عن توجهاتها اليسارية والقومية وترسيخ القضية الفلسطينية على جذور إسلامية. وذلك قبل أن يعلن عن توفير إيران دعماً مالياً سخيًّا للمقاومة. وتكريس آخر جمعة من شهر رمضان المبارك يومًا عالمياً للقدس الشريف، قائلا: “يوم القدس يوم حياة الإسلام”. وفيه يخرج العمال والموظفون في مسيرات احتجاجية مناهضة للدولة الصـهيونية المتعطشة للدماء!.[٩].

وهو ما يوضح لنا لماذا لم تدم العلاقة طويلاً بين “فتح” وإيران الإسلامية، حيث لم تكن “فتح” يوماً إسلامية على خلاف ظن الإيرانيين في كل من يجاهد ضد اليـهود، لذا كانت الصدمة كبيرة عندما جاء وفد فلسطيني برئاسة “سعد صايل” عضو اللجنة المركزية لحركة فتح إلى طهران للقيام بالوساطة من أجل الإفراج عن الرهائن الأمريكيين المحتجزين في مقر السفارة الأمريكية بعد اقتحامها من قبل أتباع “الخميني”!.

ثم كانت الضربة الثانية في زعزعة أواصر العلاقة بينهما عندما تخلف “عرفات” عن دعم إيران في الحرب التي شنتها عليها العراق في ٢٢ سبتمبر ١٩٨٠م، كما كان متوقعًا منه في مساندتها بحكم الصداقة الجديدة وبما أنها الطرف المستضعف في هذا الصراع، فخرجت جموع عدائية تندد بزيارته لإيران مجددا في ٢٨ فبراير سنة ١٩٨١م.

أما الضربة القاضية والمسمار الأخير في نعش العلاقة بين إيران وفتح، فكانت بعد عقد عرفات اتفاقية السلام مع إسرائيل والتي بموجبها أصبح شرطيا يحمي أمن الدولة الصهيونية ضد رجال المقاومة الممثلة في حــماس والجهاد الإسلامي، فاقتحم الطلاب ومتظاهرون من الحرس الثوري مقر السفارة الفلسطينية في نوفمبر ١٩٩٤م، ومزقوا علم منظمة التحرير، محتجزين طاقم العمل باعتبارهم جواسيس ومخبرين لصالح إسـرائيل!.[١٠]..

ومن ثمّ اقتصرت العلاقة والدعم المالي واللوجستي على جماعة الجهاد الإسلامي وحركة حـماس وهو ما سوف نتكلم عن بداياته والمنعطفات التي مر بها منذ بدأ مع الشهيد المجاهد “فتحي الشقاقي” وحتى يومنا الحالي في الجزء الثالث والأخير من هذه الدراسة بإذن الله تعالى..

 كتبه الفقير إلى عفو الله/ أحمد الشريف

٢٥ ديسمبر ٢٠٢٣م / ١٢ جمادى الآخرة ١٤٤٥هـ

معركة الوعي أم المعارك

هوامش المقال:

[١] إيران وتطورات القضية الفلسطينية، د/علي أكبر ولايتي، صـ١٨٧-١٨٩، دار الهادي للطباعة والنشر، بيروت سنة ٢٠٠٧م.

[٢] إيران دراسة عن الثورة والدولة، د/ وليد عبد الناصر، صـ٦٤، طبعة دار الشروق سنة ١٤١٨هـ/١٩٩٧م.

[٣] الثورة الإيرانية.. الجذور الأيديولوجية، د/إبراهيم الدسوقي شتا، صـ٢٧٠، صـ٢٨٤، صـ٢٨٥ دار الزهراء للإعلام العربي، ط. الثانية ١٩٨٧م/١٤٠٧هـ.. و”مدافع آيات الله”، محمد حسنين هيكل، صـ١١٧، طبعة دار الشروق، الطبعة السادسة ٢٠٠٢م/١٤٢٢هـ.

[٤] إيران من الثورة الدستورية حتى الثورة الإسلامية [١٩٠٦-١٩٧٩]، طلال مجذوب، صـ٤٢٠، دار ابن رشد للطباعة والنشر.

[٥] د/علي أكبر ولايتي، مصدر سابق، صـ٣٢٣..

[٦] د/علي أكبر ولايتي، مصدر سابق، صـ٣١٠..

[٧] الحكومة الإسلامية في رؤية الإمام الخميني، محسن زين العابدين، صـ١٩٩، طبعة مركز المصطفى العالمي للطباعة والنشر

[٨] إيران من الداخل، فهمي هويدي، صـ٣٧٠، مركز الأهرام للترجمة والنشر، الطبعة الرابعة، سنة ١٤١٢هـ/ ١٩٩١م..

[٩] حماس من الداخل، زكي شهاب، صـ١٦٦-١٦٧، الدار العربية للعلوم ناشرون، طبعة بيروت سنة ١٤٢٩هـ/٢٠٠٨م.

[١٠] زكي شهاب، مصدر سابق صـ١٦٩-١٧٠. وإيران من الداخل، مصدر سابق، صـ٣٩٥-٣٩٨..

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *