بحوث ودراسات

أحمد الشريف يكتب: إيران وفلسطين ووضع النقط على الحروف (٣)

في محاضرة مهمة ألقاها الأستاذ الصحفي “محمد حسنين هيكل” في الجامعة الأمريكية بالقاهرة في ١٩ أكتوبر ١٩٩٣م بمناسبة عقد اتفاق “غزة-أريحا” بين السلطة الفلسطينية برئاسة “ياسر عرفات” وبين حكومة “يتسحاق رابين” الإسرائيلية، وضّح الأسباب التي دفعت “عرفات” إلى عقد الاتفاق والتنازل عن خيار المقاومة والاعتراف بإسرائيل ومن أبرزها: أن الدول العربية في معظمها كانت تضغط منذ سنوات على منظمة التحرير كي تدخل في اتفاق مع إسرائيل يريح العرب ويريح بعض أصدقاءهم الكبار في الغرب، ويطفئ شرر النار الفلسطينية قبل أن يتطاير مرة أخرى في دورة متجددة قد تكون #إسلامية في ظل الأجواء المتغيرة للمنطقة، فكان الإقناع بالحجة، وكان بالضغط، وكان بالإذلال ومنع المساعدات أيضا!.

وقد دفعت الأزمة المالية التي تعرضت لها السلطة في هذا الاتجاه بقوة فأعلن “ياسر عرفات” وقتئذ: «أنني لا أريد أن أكون “جورباتشوف” فلسطين، أعطي ما عندي الآن ولا آخذ مقابله إلا وعدًا مؤجلًا»..

ومن ثمّ ظهرت الهمة عقب الاتفاق، فإذا “شمعون بيريز” وزير الخارجية الإسرائيلي ينشط في جمع التبرعات للفلسطينيين، وإذا الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تلينان وتتعطفان، وإذا بعض دول الخليج تدفع وهي تستعيذ باللّه!.[١]..

كانت هذه الرؤية للأستاذ “هيكل” الصحفي الكبير المعروف بمرجعيته العلمانية المناوئة للإسلام السياسي، والذي أعلن عدم رفضه للاتفاقية وإن لم يبد تأييدا لها، ذات دلالة كبيرة في الإشارة إلى الخطر الكامن -على الأنظمة العربية وإسرائيل- وراء انتهاء دور منظمة التحرير وصعود التيارات الإسلامية المقاومة المتمثلة في حماس والجهاد الإسلامي إلى سطح المشهد في ظل الأجواء المتغيرة في المنطقة..

وهذه الأجواء المتغيرة التي لم يفصّلها الأستاذ “هيكل” في محاضرته، تمثلت حينها في هزيمة دولة العراق والإجهاز عليها تحت وطأة الحصار نتيجة مغامرة “صدام حسين” الفاشلة بغزو الكويت في أغسطس ١٩٩٠م. وذلك في ظل النجاح السياسي الإسـرائيلي للمرة الأولى في الحصول على شرعية وجوده بالمنطقة جرّاء عقد السلام مع مصر وما تبعه من تراجع القضية على سلم الأولويات العربية، حيث انصرف الهم العربي إلى تنفيذ الأوامر الأمريكية بتقديم الدعم للجهاد في أفغانستان ضد السوفييت، وللرئيس العراقي “صدام حسين” في عدوانه الظالم على إيران [١٩٨٠-١٩٨٨م].

فقامت إسرائيل باجتياح لبنان في سنة ١٩٨٢م من أجل القضاء على تجمعات المقاومة الفلسطينية هناك وإبعادها من المناطق الحدودية في جنوب لبنان وتأمين حدودها الشمالية الاستراتيجية في عمق الدولة اللبنانية. وقد اطمأنت إلى حالة التراخي والاستسلام والهرولة على طريق السلام معها التي سادت المناخ العام للأنظمة العربية..

حيث كانت مصر هي الحاضنة الجديدة للدولة اليهودية بعد أن فقد العدو أكبر حليف له في المنطقة بسقوط شاه إيران وإعلان الثورة الإسلامية عداءها الصريح لدولة إسرائيل، وتحريم التعامل معها بناء على فتوى آية الله “الخميني” التي يقول فيها: «بما أن إسرائيل في حالة حرب مع المسلمين، فكل من يساعدها ويساندها يكون بدوره في حالة حرب مع المسلمين» [٢]..

ولذلك حرصت إسـرائيل بعد بضعة أشهر من فرار الشاه الذي كان مصدر ٧٠٪ من إمداداتها النفطية على إضافة ملحق لمعاهدة السلام مع مصر تنص فيه على إقامة علاقات اقتصادية طبيعية بين مصر وإسرائيل تشمل مبيعات تجارية عادية للبترول من مصر إلى إسـرائيل، وأن يكون من حق إسرائيل الكامل التقدم بعطاءات لشراء البترول المصري تنظر لها مصر على نفس الأسس والشروط المطبقة على مقدمي العطاءات الآخرين لهذا البترول.[٣]..

ومن المفارقات في هذا الصدد أن مصر قطعت علاقتها بإيران الشاهنشية في سنة ١٩٦٠ بسبب تقارب الشاه مع إسرائيل، وبعد تبادل الشتائم والاتهامات بين “الشاه” و”عبد الناصر” قررت إيران إعطاء أرقام لوحات السيارات الدبلوماسية المصرية للسيارات الإسرائيلية الموجودة بالممثلية الإسرائيلية في طهران..[٤]..

وعلى الرغم من عودة العلاقات المصرية الإيرانية بعد وفاة “عبد الناصر” وبصورة أكثر حميمية من ذي قبل، فإنها انقطعت مرة أخرى بسقوط عرش الطاووس في إيران وتم تبادل الاتهامات بين “الخميني” و”السادات” ولكن هذه المرة انقلبت الآية فكان لمصر دور الخيانة والموالاة لإسـرائيل، ودخلت إيران في مربع الممانعة ومقاومة إسـرائيل!.

أما موقف المقاومة الإسلامية من الاتفاقية فنجده بكل وضوح وصراحة لا تمت إلى أساليب ودبلوماسية السياسة بصلة، في كلمة للدكتور “فتحي الشقاقي” [١٩٥١-١٩٩٥م] الأمين العام للجـهـاد الإسـلامي ألقاها في لبنان: «حتى الاستسلام الجماعي لم يعد من حقنا إذ علينا ان نستسلم فرادى وأن نؤكل فرادى واحد إثر آخر. وصيغة مدريد الفاضحة لم تعد كافية، لم تعد تلبي جشعهم وساديتهم. وعلى الجميع أن ينتقل إلى صيغة غزة-أريحا، حيث يتحول “ياسر عرفات” إلى مجرد شرطي والملك الأردني إلى شرطي وبقية العرب يتراوح دورهم المرسوم من سوق ومرتع إلى سماسرة وشهود زور!.

إنها الصفقة الأسوأ من وعد بلفور بلا شك، لقد قال لهم ياسر عرفات خذوا ما شئتم، إن قبلتم أن أكون الشريك الآخر، ولسان حاله يقول: أن أحكم ولو ذاتياً ولو في غزة أولى عندي من أن يحكم فلسطيني آخر كل فلسطين!.. وهكذا دفعت الأمة ثمناً غالياً عندما سكتت عن أن يكون ‘عرفات” هو الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وعندما كنا نرفض هذا المنطق وندرك خطأه ومخاطره كانوا يقولون لنا بديماغوجية وإسفاف هذا شبيه بموقف إسرائيل أيضاً»!.[٥]

وهو ما لم يتفق فيه مع “الشقاقي” وقتها من دول المنطقة إلا إيران، التي قطعت علاقتها بمنظمة التحرير وقَصَرت دعمها المالي والعسكري على جماعات المقاومة الإسلامية فقط في فلسطين ولبنان، وقد اعترف الدكتور “الشقاقي” في مطلع العام ١٩٩٤م، بتخصيص إيران ميزانية تبلغ قيمتها ثلاثة ملايين دولار في كل عام من أجل دعم عائلات الشهداء الفلسطينيين وعدة مئات من المعتقلين المحتجزين في السجون الإسرائيلية.[٦].

وهذا هو التوقيت الذي تبلورت فيه العلاقة بين “حماس” و”طهران”، والتي بدأت فعليا في منطقة “مرج الزهور” في جنوب لبنان، حيث قامت إسرائيل في ديسمبر ١٩٩٢م بإبعاد أكثر من ٤٠٠ فلسطيني ينتمي غالبيتهم لحركة “حماس” وعلى رأسهم الدكتور الشهيد “عبد العزيز الرنتيسي”. حيث قدمت لهم إيران يد العون عن طريق رجال “حزب الله” هناك، وقد توطَّدت العلاقة بعد ذلك ففتحت حماس مكتبًا لها في “طهران” بإدارة المهندس “عماد العلمي” أحد المؤسسين لحركة حماس ومن أبرز المبعدين في لبنان.[٧].

ومن الجدير بالذكر هنا معرفة الظروف القاسية التي تعرض لها المبعدون، حيث جُمعوا من بيوتهم في ليلة من ليالي الشتاء القارص وقيدت أيديهم وأرجلهم وأودعوا في سيارات لمدة يوم ونصف لم يسمح لهم فيها بقضاء الحاجة فضلا عن السب والإهانة ليجدوا أنفسهم في أرض لبنان دون أي سند قانوني أو محاكمة قضائية. ولقد ناشدوا الأمة العربية للوقوف معهم ولكن لا حياة لمن تنادي.. وها هي واحدة من رسائلهم إلى مصر الجارة المسلمة يستنصرونها:

«من المبعدين في مخيم العودة إلى شعب مصر..

أيها الشعب المصري العظيم نذكركم إذا ما رأيتم الابتسامة ترتسم على وجوه أطفالكم أو أمهاتكم أو زوجاتكم ألا تنسوا الدموع التي تذرف من عيون أمهاتنا وزوجاتنا وأطفالنا، وإذا امتلأت دياركم بالأفراح فتذكروا أن الحزن يخيم على ديارنا، وفي كل بيت من بيوتنا يوجد مأتم إما لسقوط شهيد أو لاعتقال ابن أو لإبعاد حبيب.

يا شعب مصر:

نناشدك اللّه أن تتحرك من أجلنا فأنت إذا تحركت فستتحرك كل الشعوب العربية والإسلامية..

يا إخوتنا ماذا تنتظرون؟  إننا سنسقط صرعى خلال أيام..

فماذا تنتظرون؟!

هل تنتظرون ان تتقبلوا فينا خالص العزاء.. »!.[٨]

وإن هذا الجحود من الأمة العربية دفع للتقارب بين إيران وحماس بصورة كبيرة حيث كانت جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين تتخذ موقفاً مغايرًا تمامًا قبل الانتفاضة الفلسطينية وإنشاء حماس، حتى أنها كانت أول من اتهم حركة الجهاد الإسلامي بقيادة “الشقاقي” -الذي سبقها بنحو عشر سنين في العلاقة بإيران وفتح مكاتب للحركة هناك- بموالاة إيران واللمز في طبيعة علاقتهم بالشيعة.

وعن ذلك يقول الدكتور “رمضان شلّح” الأمين العام للجـهـاد بعد استشهاد “الشقاقي”: «إن التهمة وقتها كانت خنجرًا مسموماً في ظهر حركة الجهاد، بسبب الحرب العراقية-الإيرانية [١٩٨٠-١٩٨٨م] والتعبئة المذهبية والطائفية ضد الثورة الإيرانية التي أيدناها لأنها أسقطت نظاما من أقوى حلفاء الكيان الصهيوني بالمنطقة، والتي يمكن أن تشكل سندا لنا في جهادنا من أجل تحرير وطننا المغتصب..»

ويضيف الدكتور “شلّح”: «للأسف دارت الدوائر لنجد من يتهم حماس اليوم بأنها موالية للشيعة وتنفذ أجندة إيرانية في فلسطين.

لقد أصبحت هذه التهمة فزاعة تُستخدم ضد كل حركات المقاومة الرافضة لنهج التسوية والاستسلام، كما يحاول بها الآخرون التغطية على الإملاءات الأمريكية والصهيونية عليهم!

وفي واقع الأمر لا الجهاد ولا حماس شيعة، ولا فتح حامية حمى السنة في فلسطين، القصة هي أن الفريق الذي يتهم حماس أو الجهاد أو غيرهما بعلاقتهم الخاصة بإيران هم حماة إسرائيل»!.[٩]

في النهاية يجب التنويه حتى لا يظن أحد أن اضطرار حماس إلى إقامة علاقة مع إيران سببٌ للطعن في موقف إيران من القضية. فهو بالأساس موقف مبدئي قبل نشأة حماس وقبل أن تدخل جماعة الإخوان في فلسطين في مدار المقاومة المسلحة ضد الاحتلال. وهو ما يؤكده الدكتور “فتحي الشقاقي” صاحب الشرارة الأولى في الجهاد الإسلامي المسلح ضد العدو، حين تكلم عن تدريب كوادر الحركة الإسلامية على يد الحرس الثوري الإيراني في معسكرات الثورة الفلسطينية بلبنان، وإعلان الإمام “الخميني” عن مساعدته للكفاح المسلح والفتوى بوجوب العمل على محو الكيان الصهيوني ضمن فتواه التاريخية التي قال فيها: يجب على الدول الإسلامية وعلى عامة المسلمين إزالة الغدة السرطانية إسرائيل وألّا يقصروا في مساندة الثوار ويجوز لهم صرف الزكاة وسائر الصدقات في هذا الأمر المصيري!.[١٠]

إلى هنا تنتهي هذه الدراسة بمقالاتها الثلاث التي تبين كم كان موقف إيران في عهد الجمهورية الإسلامية مساندًا وداعمًا للقضية الفلسطينية، ومن وازع الدين والعقيدة وليس لأي غرض آخر. وهذا ما اعترف به أصحاب القضية أنفسهم بدءا من قائد فتح “ياسر عرفات” مرورا بالشهيد المُعلّم “فتحي الشقاقي” وخليفته المناضل الدكتور “رمضان شلّح” وغيرهما من قادة الجهاد الإسلامي وانتهاء بمسؤولي حماس المجاهدين وعلى رأسهم “إسماعيل هـنيـة” و”خالد مشـعل” و”يحيى السـنوار” الذي قالها جليّة واضحة بصراحته المعهودة: «لولا دعم إيران للمـقـاومـة في فـلسـطين لما امتلكنا هذه القدرات، نعم.. لقد تخلت عنا أُمَّتنا في اللحظات الحرجة والصعبة، ودعمتنا إيران بالمال والسلاح والعتاد والخبرات»..

أما الحديث عمّا أثير حول موضوعات ثورة الخميني الفرنسية وفضيحة صفقة الأسلحة الأمريكية بالوساطة الإسرائيلية ودور إيران المشين في إجهاض الثورة السورية فسوف أرجئه إلى مقالات قادمة بإذن الله تعالى..

كتبه الفقير إلى عفو الله/ أحمد الشريف

١٥ يناير ٢٠٢٤م / ٣ رجب ١٤٤٥هـ.

#معركة_الوعي_أم_المعارك

هوامش المقال:

[١]. اتفاق غزة-أريحا أولاً.. السلام المحاصر، محمد حسنين هيكل، صـ٨-٩، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، طبعة بيروت ١٩٩٤م.

[٢] في النظام السياسي للدولة الإسلامية، د/ محمد سليم العوا، صـ٢٧٩، طبعة دار الشروق ٢٠٠٦م/١٤٢٧هـ، نقلاً من “الحكومة الإسلامية” للخميني صـ١١٤.

[٣] “السادات” ٣٥ عاما على كامب ديفيد، فاتن عوض، صـ٤٧٣، الملحق الثالث لاتفاقية السلام، طبعة سنة ٢٠١٣م.

 [٤] إيران وتطورات القضية الفلسطينية، د/علي أكبر ولايتي، صـ٣٠٧، صـ٣٥١، دار الهادي للطباعة والنشر، بيروت سنة ٢٠٠٧م.

[٥] الأعمال الكاملة للشهيد فتحي الشقاقي، صـ١٣٥٠، إعداد وتوثيق د/ رفعت سيد أحمد، مركز يافا للدراسات، ط. سنة ١٩٩٧م.

[٦] حماس من الداخل، زكي شهاب، صـ١٨٠، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت سنة ٢٠٠٨م/١٤٢٩هـ.

[٧] حماس من الداخل، مصدر سابق، صـ١٧١..

[٨] حـماس والجـهاد جناحا المقاومة الإسلامية في فلسطين، د. محمد مورو، صـ١٠٩، كتاب المختار الإسلامي، القاهرة سنة ١٩٩٣م.

[٩] حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين حقائق ومواقف، د/ رمضان شـلّـح، صـ٧١-٧٥ مؤسسة الأقصى الثقافية، دمشق سنة ٢٠٠٧م

[١٠] الخميني الحل الإسلامي والبديل، فتحي الشقاقي، صـ٤٧، المختار الإسلامي، الطبعة الأولى ١٣٩٩هـ/١٩٧٩م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى