الجمعة يوليو 5, 2024
بحوث ودراسات

أحمد الشريف يكتب: العقاد وثقافة التدليس المبتورة!.

كتبت منذ بضعة شهور مُحذّرًا من خطورة القراءة السطحية التي يسودها طريقة البتر والاجتزاء دون التعمق في السياق العام والقراءة الكاملة للنصوص، وقد ضربت المثال على ذلك بمن أراد الطعن في الإمام “ابن تيمية” فاقتطع قوله: «سِتُّونَ سَنَةً مِنْ إمَامٍ جائِرٍ أَصْلَحُ مِنْ ليلةٍ واحدةٍ بلا سُلْطَان»، ليثبت أن شيخ الإسلام يروّج لحكم الجور والاستبداد، ويدعو لطاعة الإمام الجائر والركون لظلمه خوفًا من الفوضى المترتبة على غيابه!.[١]..

وهى #وسيلة يلجأ إليها بعض النُّقاد والباحثين في كتبهم للتعمية على القارئ ومحاولة توجيهه بغض النظر عن تبيان الحق والحقيقة. مستغلين في ذلك غفلة القُرّاء وعدم رجوع معظمهم إلى المصادر الأصلية للتأكد من الأمر. وهى في النهاية وسيلة باطلة –حتى مع افتراض حسن نية الباحث– إذا لجأ إليها في النقد فإنما يسيء إلى نفسه ويسيء إلى كتاباته، يسيء إلى نفسه لأنه يفضح عجزه ويسيء إلى كتاباته لأنه يُرِي الناس أنه محتاج إلى الباطل ليثبت رأيه!..

ومع الأسف لقد سادت تلك الطريقة وانتشرت بضراوة في ظل صفحات التواصل وسهولة تداول المعلومة دون رادع من ضمير أو مؤاخذة من رقيب أو حتى محاولة التروي طاعة للأمر الإلهي: ﴿فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾!..

ومما يؤلم النفس أن تجد ذلك في صفحات يُعدّ أصحابها مِن أصحاب القلم وأرباب الثقافة ومَن يتطلع الناس لمعرفة آرائهم في الأمور المختلف عليها مثل الكاتب “محمد جلال القصاص” الذي يشن حملة كبيرة هذه الأيام على الأستاذ “عباس العقاد” لصرف الناس عن القراءة له والتحذير من خطر أفكاره وفساد عقيدته وسوء طويته على حد زعمه!.

وبالطبع للأستاذ “القصاص” كامل الحق في طرح فكره على صفحته والحطّ من قدر من يشاء، ولكن ليس من حقه أن يستخدم في سبيل ذلك طريقة الاجتزاء والاقتطاع من السياق خاصة وهو نفسه قد سبق له رفضها والنهي عنها عندما قام باتهام الدكتور “محمد عمارة” -رحمه الله- أنه يفعل ذلك في مقال سابق له تحت عنوان “معركة الرموز” قائلًا بالنص: «د.”محمد عمارة” يُغيّر المعنى ببتر النص من سياقه، ولأن الناس مشغولة الآن لم يجد من يدقق في كلامه ويرد عليه.»!!.[٢]..

ولذلك كان من المستهجن أن نرى الكاتب نفسه يلجأ إلى ما كان ينهي عنه، في إطار حملته على الأستاذ العقاد فيكتب قائلا:

من كلمات عباس العقاد الفاجرة:

“إذا تركنا الحوادث جانبًا ونظرنا إلى التاريخ في صدر الإسلام على أنه تاريخ قيم ومبادئ، فلنا أن نقول: إننا أمام فواجع مؤلمة، يود الناظر إليها لو يزوي بصره عنها” ( عثمان ذو النورين: ص٣٠).

يتحدث “العقاد” عن الصحابة وعن الجيل الأول من هذه الأمة.. أولئك الذين زكاهم الله في كتابه بقوله: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ…﴾.

ثم يقولون عباس وعبقرياته

العبقريات عثمان ذو النورين …[٣]..

وهى الكلمة التي لو جئنا بها في السياق لحمدنا للعقاد قولها حرصًا منه على تنزيه الجيل الأول وخير القرون من حدوث مثل تلك الفاجعة بقتل الخليفة الراشد “عثمان بن عفان” وليس كما يدعي الكاتب بأن غرض العقاد هو الإزراء بالصحابة وانتقادهم!.

فيقول الأستاذ “العقاد” : «أَثَرُ العقيدة في الخليفة “عثمان” -رضي الله عنه- وهو فرد أوضح من أثرها فيمن قدموا إليه من الأمصار ليناظروه ويحاسبوه، وهو واحد من آحاد معدودين لم يكن في وسع العقل أن يتخيلهم في جاهليتهم على حالتهم التي ارتفعوا إليها بعد الإسلام.

إنه كان من سلالة الأمويين، وهي سلالة اشتهرت في الجاهلية بالحرص على المال لا تبذله في غير مأرب أو متعة، ولم ينهض أحد منهم بتكاليف المروءة والسخاء إلا منافرة لمن ينافسهم بين الملأ، فلما أسلم “عثمان” كانت شهرته الكبرى بالسخاء والأريحية، فنزل عن ماله لتسيير جيش في سنة العسرة، ونزل عن ماله لشراء بئر يستقي منها المسلمون بغير ثمن، ونزل عن ماله لتوسعة المسجد، ونزل عن ماله لحمل المغارم وإعانة الملهوف والبر بالأقربين والأبعدين.

ومذهب “عثمان” في محاسبة نفسه قد تتعارض فيه الأقوال والتأويلات، ولكنه في الأمر الثابت الذي لا جدال فيه قد بلغ الذروة من محاسبة النفس والتحرج من المساس بالحياة البشرية ولو في سبيل الذود عن حياته وحياة أقرب الناس إليه، فلما أيقن من القتل؛ أبى أن يبقى في داره من يقتل أحدًا ممن يحيطون بها ويعالجون اقتحامها لاغتياله، ولما سُئِل أن يتنحى عن الخلافة أبى أن يتنحى عنها، ولم يكن إباؤه ضنًّا بشيء يحتويه، فلا شيء أغلى من الحياة وقد هانت عليه، ولا يزعم أحد أنه غنم من الخلافة مالًا، بل يتفق المؤرخون على أنه ترك الدنيا وماله أقل مما كان لديه يوم ولي الخلافة، ولكنه أبى أن يخلع نفسه حذرًا من أن يحمل جريرة الخلع وما يعقبه من النزاع والقتال، وقد صرح بذلك غير مرة فقال: إنه يخشى على الذين يستطيلون أيامه أن يتمنوا بعده لو كان يومه مائة سنة، فلا يبوءون بالعاقبة المحذورة وهو مختار.»!.[٤]

فمن سوء حظ الكاتب أن هذه الفقرة العبقرية المنصفة لسيدنا “عثمان” هى التي كانت تسبق مباشرة تلك التي اقتطعها، والعجيب أنه لو أكملها لبان عوار قوله عندما استدرك “العقاد” قوله:

«… وليس لنا أن نقول: إننا أمام صدمة يصطدم بها من يسأل عن أثر العقيدة وأطوارها، فلا صدمة هناك إذا نحن وزنا الحوادث بميزان القيم، وعلمنا أن التاريخ لن يخلو من الحوادث، وأن حوادث الخلاف ليست بأكبر الشرور التي تُبتلى بها ضمائر بني الإنسان.»!.

وفي المجمل إذا بعدنا عن الاجتزاءات المخلة فإن الكتاب من أفضل ما كُتب في تفسير أسباب الفتنة في نهاية خلافة “عثمان” رضوان الله عليه، حيث رسّخ بعبقرية قلم “العقاد” المكانة المستحقة للصحابي العظيم في عقول القرّاء وقلوبهم، ومن ذلك -على سبيل المثال لا الحصر- قوله: «هذه العجالة عما كان من المنافرة بين بني هاشم وبني أمية في الجاهلية، نفهم منها أن فضل عثمان في إسلامه لا يدانيه فضل أحد من السابقين المعدودين إلى الإسلام؛ إذ لم يكن منهم من أقامت أسرته بينها وبين النبي هذه الحواجز العريقة من المنافسة والملاحاة»..[٥]..

وقبل ترك كتاب “عثمان” للأستاذ “العقاد” أودّ أن أورد شيئا من رأيه في صحابة رسول الله ﷺ، الذين لولا الإسلام لما كان لهم شأن أو سيرة تذكر. وذلك حتى تكتمل الصورة وتسقط الفرية عن الكتاب وصاحبه:  «إن سيرة الخليفة الثالث نمط من أنماط متعددة زخرت بها الدعوة الإسلامية من سير الخلفاء وغير الخلفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي عبيدة، وخالد، وسعد، وعمرو، وأمثالهم من الصحابة والتابعين، ما منهم إلا من كان عظيمًا بمَزْية، وعلَمًا من أعلام التاريخ، فأين كان موضع هؤلاء من العظمة ومن تاريخ بني الإنسان لولا العقيدة الدينية ولولا الرسالة المحمدية؟»[٦]..

وفي النهاية نصيحتي إلى السادة القراء الذين جبلوا على القراءة السريعة والاكتفاء برأي الرجال، دون تكبد عناء البحث وقراءة المصادر الأولى، فليبحثوا عن آراء الثقات والكبار في أهل العلم والدراية ولا يغترون بمن ينقل عنهم، فإن الإنصاف والموضوعية وتحري الأمانة في النقل صارت عملة نادرةً وخلقًا عزيزًا في هذه الأيام..

ومن أفضل هؤلاء الكبار المعاصرين الذين يُعتدّ برأيهم هو الشيخ الجليل “محمد الغزالي” الذي قال: «عندما أوازن بين “طه حسين” وبين “العقاد” من الناحية العلمية أجد “العقاد” أعمق فكرًا وأغزر مادةً وأقوم قيلًا، وأكاد أقول: إن الموازنة المجردة تخدش قدر “العقاد!..

بيد أنني لاحظت أن هناك إصرارا على جعل “طه حسين” عميد الأدب العربي وإمام الفكر الجديد، أما “العقاد” وإسلامياته الكثيرة فيجب دفنه ودفنها معه، ومع أن الرجل حارب الشيوعية والنازية وسائر النظم المستبدة، وساند الديمقراطية مساندة مخلصة جبارة، فإن العالم (الحُرّ) ينبغى أن يهيل على ذكراه التراب، ليكون عبرة لكل من يتحدث فى الإسلام، ولو بالقلم!..فكيف إذا كان حديثا بالفكر والشعور، والدعوة والسلوك، والمخاصمة والكفاح؟..هذا هو الخصم الجدير بالفناء والازدراء.!.[٧]..

ولم ينفرد الشيخ “الغزالي” فقط بهذا الرأي بل شاركه فيه عمالقة مثل العلامة “يوسف القرضاوي” في درته “فقه الجهاد”، والدكتور “محمد رجب البيومي” في سفره الماتع “النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين”، وأيضا شيخ العربية المحقق “محمود شاكر” الذي ادعى الأستاذ “القصاص” أنه لم يكتب عن “العقاد” إلا من ناحية تقدير اللغة العربية ومن يعلي قدرها، وتغافل الأستاذ “القصاص” –وما أحسبه جاهلًا– عن تقدير “شاكر” العظيم لكتاب “عبقرية محمد” حيث كتب في مجلة الرسالة سنة ١٩٤٠م، حول خطر الاستشراق والمستشرقين على الأمة الإسلامية، فقال:

«كتب الأستاذ “العقاد” في العدد الهجري للرسالة مقالة عن عبقرية مُحمد ﷺ العسكرية ثم عن عبقريته السياسية فاستوفى القول في ذلك وأشبعه، وردّ كثيرًا من الشُبه التي كان يلبس بها الأعاجم على الأغرار من شبابنا.

وليس يستطيع مستشرق أن ينفذ في فهم التاريخ العربي، والاجتماع الإسلامي، والفلسفة الإسلامية، كما يستطيع كاتب قارئ مطلع كالأستاذ “العقاد”. ونحن نرجو ألا يُخْلِي “العقاد” مباحثه من هذا النوع الجديد من الفكر في تاريخ تنقذف عليه كُلّ يوم جهالات كثيرة مُفسِدة ليس لها أصل ولا بها قوة.»!.[٨]..

وبعد..  في الختام  يجب التنبيه على أني لا أدعو إلى تقديس أحد مهما علا، وإنما مذهبي هو الحكم على الأشخاص طبقًا للمجمل..

وأن الأستاذ “العقاد” ومن هو فوقه أو دونه من المفكرين، يؤخذ منهم ويرد عليهم، وما رزقوا العصمة ولا زعمت لهم يوما..

ولا أحب أن تكون وظيفتي مضغ الأخطاء وتتبع العثرات، والتعامي عن الحسنات، خاصة إذا كانت بالمبادئ والأفكار، أما الأشخاص وأحوالهم فحسابهم عند الله ..

كتبه الفقير إلى عفو الله/ أحمد الشريف

٢٩ سبتمبر ٢٠٢٣م / ١٤ ربيع الأول ١٤٤٥هـ.

#معركة_الوعي_أم_المعارك !.

هوامش المقال:

[١] للتفاصيل والرد على تلك الفرية راجع بالتعليق الأول مقال (خطورة الثقافة المبتورة)، المنشور في ٢٠٢٣/٣/٢٢م..

[٢] مقال معركة الرموز، محمد جلال القصاص، موقع طريق الإسلام، بتاريخ ٢٢ رمضان ١٤٣٩هـ/٦ يونيو ٢٠١٨م..

[٣] على صفحة محمد جلال القصاص، بتاريخ ٢٠ سبتمبر ٢٠٢٣م، صورة ضوئية للصفحة في التعليق الثاني..

[٤] عثمان ذو النورين، عباس محمود العقاد، صـ٣٠، طبعة بيروت

[٥] عثمان ذو النورين، موسوعة العبقريات الكاملة، عباس محمود العقاد، صـ٥٦٤، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت ١٣٩١هـ/١٩٧١م..

[٦] عثمان ذو النورين، الموسوعة الكاملة مصدر سابق، صـ٥٣٤..

[٧] علل وأدوية، محمد الغزالي، صـ٦٥-٦٦، طبعة دار الشروق ..

[٨] جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، صـ١٢٨، جمعها د/عادل سليمان جمال، طبعة مكتبة الخانجي القاهرة..

Please follow and like us:

1 Comment

  • Avatar
    خالد عبد الله الثلاثاء أكتوبر 3, 2023

    في المقال تجني على الدكتور القصاص، وذلك أنه قدم كتابًا كاملًا ولم يقدم فقرة أو فقرتين كما ادعى كاتب المقال، وقد وضع رابطه في النقاش على صفحة الفيس، وهذا هو:

    http://saaid.org/book/open.php?cat=88&book=6308

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب