أحمد الشريف يكتب: غثاء السيل؟!
كان المسلمون في زمان “نور الدين محمود زنكي” [٥١١-٥٦٩هـ/١١١٨-١١٧٤م] في محنة عظيمة وضعف رهيب شجع أمم أوروبا بقيادة فرنسا وألمانيا وانجلترا بمهاجمة بلادهم وشن الحملات الصليبية واحدة تلو الأخرى عليهم في جرأة واستهانة وعدم خشية من رد فعل للمسلمين أو عاقبة لذلك العدوان الغاشم واحتلال معظم بلاد الشام وفي القلب منها القدس الذي ذبحوا فيه آلاف المسلمين وجعلوا المسجد زريبة للبهائم والخنازير زهاء قرن من الزمان منذ نهاية القرن الحادي عشر الميلادي وحتى أواخر القرن الثاني عشر!
ومع مجيء القرن الثالث عشر الميلادي انضمت القبائل التتارية الآسيوية إلى الأمم المتكالبة على بلاد الإسلام وتدمير مدينة بغداد عاصمته الزاهرة، صارت دولة الإسلام حرفياً في عصر “غثاء السيل” الذي تحدث عنه النبي ﷺ قائلا: «يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، قيل: يا رسولَ اللهِ فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ ؟!.. قال لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم ، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ»!.[١]..
ومع ذلك عندما رأى أصحاب “نور الدين محمود” كثرة إنفاقه على العبّاد والزهاد والقراء والفقراء والمساكين والضعفاء، وراجعوه في ذلك قائلين: لو استعنت بهذه الأموال على الأمور الحربية والعسكرية لكان أفضل وأصلح!
لم يقل لهم إن هؤلاء هم غثاء السيل ولكنه ردّ بغضب وحزم: «والله إني لا أرجو النصر إلّا بأولئك، كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ؟ (يريد الدعوات)، والجند يقاتلون العدو بسهام قد تُصيبه بفضل الله تعالى وقد تخطئه»!.[٢].
لقد كان نور الدين نموذجاً عظيما يحتذى به في تاريخنا الإسلامي، فلم يكن ملكاً عظيماً وقائدا شجاعا ومحاربا قديرا وسياسياً حكيماً فحسب، بل كان أيضا فقيهاً عارفاً بمذهب الإمام أبي حنيفة ومحدثًا وزاهداً وعابداً يتشبه بالعلماء ويقتدي بالصالحين وبسيرة من سلف منهم، متميزا بعقل متين ورأي ثاقب رزين.[٣]
ولذلك لما احتجّ على “نور الدين” أحد المتنطعين معاتبا بسبب مشاركته مع قادة جيشه في لعبه الكرة على ظهور الخيل قائلا: ما كنت أظنك تلهو وتلعب، وتتعب الخيل دون فائدة دينية. ردَّ عليه بذكاء وبصيرة وفقه رائع: «والله ما يحملني على اللعب بالكرة اللهو والبطر، وإنما نحن في ثغر، والعدو منا قريب، ولا يمكننا ملازمة الجهاد ليلا ونهارا، صيفا وشتاء، إذ لابد من الراحة للجند، فنحن نركبها ونروضها بهذا اللعب فيذهب جمامها، حتى إذا وقع صوت تكون الخيل قد أدمنت على سرعة الانعطاف بالكر والفر، فإذا طلبنا العدو أدركناه، وهذا الذي يبعثني على اللعب بالكرة.» [٤]..
وفي ذلك دليل على أنه مهما ظهر من أعمال بعيدة عن الجهاد وطلب صلاح الأمة ولا قيمة لها للوهلة الأولى والنظرة السطحية، فإنه إذا توفرت النية الصالحة صارت جزءا لا يتجزأ من الصورة الكبيرة التي تشمل قضايا المسلمين وجهادهم في الأرض من أجل الإصلاح وإعلاء كلمة الله.. حيث أول شروط إطلاق مصطلح “غثاء السيل” على قوم هو إصابتهم بالوهن أي حب الدنيا وكراهية الموت، ولا يكره الموت إلا من أخذته الدنيا وكره لقاء الله بسبب تقصيره الدائم وتكاسله عن العبادة..
والجهاد دون شك هو ذروة سنام الإسلام وهو الدرع الذي يحمي الأمة من كل اعتداء عليها وينفي عنها خبث الوهن. ولكن للجهاد صور كثيرة غير مباشرة تساعد على إتمامه وبلوغ غايته وهو ما فهمه المجاهد العظيم “نور الدين محمود” قديمًا كما أسلفنا، وما استوعبه المفكّر الإسلامي والتّربوي الأردني الكبير “ماجد عرسان الكيلاني” عندما تصدى لكتابة درته الماتعة “هكذا ظهر جيل صلاح الدين.. وهكذا عادت القدس” حيث أفرد لدور المدرسة الغزالية أكثر من مائة صفحة في تبيان دورها الكبير في الإصلاح والتجديد من أجل تحرير البلاد وإصلاح المجتمع الإسلامي قائلا في مقدمته:
«وكلمات الله التي ابتلى (امتحن) بها أبا الأنبياء هي مدى استعداده للتضحية بنفسه وولده واستقراره في سبيل الله. وعندما نجح “إبراهيم” عليه السلام في الابتلاء وكافأه الله برتبة الإمامة دعا ربه أن يجعلها أيضاً في ذريته، فجاءه الجواب: لا ينال عهدي الظالمين.
والظالمون من ذريته الذين حجب الله رتبة الإمامة عنهم هم الذين يفشلون في الابتلاءات الثلاثة، ويشرون بآيات الله ثمناً قليلاً، والثمن القليل -عند ابن عباس- هوالدنيا كلها.
وهذا ما استلهمه قولاً وعملاً وحالاً علماء حركة الإصلاح التي أخرجت جيل “صلاح الدين” وأبرزهم “أبو حامد الغزالي”..» [٥]..
مع العلم أن أكبر المآخذ على الإمام “الغزالي” [٤٥٠-٥٠٥هـ/١١١١م] مجدد القرن الخامس الهجري، أنه لم يفرد بابًا للجهاد في مجلده الضخم “إحياء علوم الدين” على الرغم من الحملة الصليبية المرعبة على الأمة، ولكن المفكر القدير “ماجد عرسان” لم ير في الإمام امتدادًا لغثاء السيل بل عدّه المؤسس لتيار الصحوة وتربية جيل التحرير بقيادة الناصر صلاح الدين..
في النهاية يجب التأكيد على أن تلك الفترة العصيبة التي تداعت فيها الأمم على بلاد الإسلام، وظن الغالبية العظمى من المسلمين أنها من علامات الساعة ولا أمل في هذا الغثاء من المسلمين إلا مع ظهور جيش المهدي وملاحم آخر الزمان، قد أعقبها فترة طويلة من علو الإسلام بقيادة أمراء المماليك قطز وبيبرس وقلاوون. قبل أن يأتي العثمانيون ويجتاح “محمد الفاتح” بجيوشه معاقل أوروبا في عقر دارها حتى فتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، ووقف بخيله على أبواب الفاتيكان في واحدة من أعظم أيام الله والإسلام فخراً وعزة وأكبر أيام الكفر ذلاً وخزيًا!
ومن ثمّ وجب علينا ألا نترك عملاً يؤدي إلى تحرير فلسطين نسير به جنبا إلى جنب مع المجاهدين في المقاومة الباسلة إلا فعلناه..
فمن استطاع أن يدعو ويخلص لله في دعائه من أجل القضية فليفعل، فرُبَّ أشعثَ أغبرَ ذي طِمرَينِ، لا يؤبه له، لو أقسمَ على اللهِ لأَبرَّهُ، كما قال رسول اللهﷺ وكما فعل في غزوة بدر، عندما تضرع خاشعا لله سبحانه: «اللَّهمَّ إنَّكَ إنْ تُهلِكْ هذهِ العِصابةَ مِن أهلِ الإسلامِ، فلا تُعْبَدُ في الأرضِ أبدًا.. وما زال يَستَغيثُ ربَّهُ عزَّ وجلَّ ويَدْعوه حتى سَقَطَ رِداؤُهُ، فأتاهُ أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فأخذ رِداءَهُ فرَدَّاهُ، ثم الْتَزَمَهُ مِن وَرائِهِ، ثم قال: يا نَبيَّ اللهِ، كَفاكَ مُناشَدَتُكَ ربَّكَ؛ فإنَّهُ سيُنْجِزُ لكَ ما وَعَدَكَ..
وبالفعل أنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: الآية ٩]..
ومن استطاع أن يقاطع البضائع الصهيونية ويدعو لذلك بإخلاص نية واستمرارية حتى بعد إنهاء العدوان، ولو ظل وحيدا وملّ من حوله المقاطعة فليفعل.. فإن القضية لن تنتهي إلا بزوال الاحتلال وتحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر،
ومن استطاع أن يبذل ماله فيخلف الأسر الفلسطينية المحاصرة والمشردة في أبنائهم المنتشرين في البلاد يتعلمون وقد انقطعت بهم السبل عن التواصل مع أهاليهم فليفعل، بنية صناعة جيل النصر والتمكين فليفعل.
ومن استطاع أن يبذل ماله في صناعة تنافسية ضد المنتجات الصـهيونية بنية توفير البدائل للشعوب المقاطعة فليفعل ولو لم يربح من ورائها إلا الأجر عند الله تعالى، وما أعظمه..
﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة..﴾ [التوبة: الآية ١١١]..
ومن استطاع أن يجعل همه تخليص وطنه من الفاسدين والطغاة ومجابهة الظالم وزعزعة حكمه ويجعل نيته في ذلك مواجهة الظلم مع القضاء على داعمي الصهيونية فليفعل..
ولقد وقف شيخ الأقصى المجاهد “رائد صلاح” يخطب في الأردن يوم الجمعة ٩ أغسطس ٢٠١٣م، الموافق لثالث أيام عيد الفطر ١٤٣٤هـ، (قبل خمسة أيام فقط من مذبحة فض اعتصام رابعة) يدعو الشعب المصري للصمود والتصدي والثبات ضد الانقلاب، ليس من أجل مستقبل مصر وحدها ولكن من أجل فلسطين والقدس أيضا..
وهو ما لم نلبث إلا قليلا حتى رأينا صدقه خلال العدوان على غزة في يوليو ٢٠١٤م، ومدى تعاظم محنتها بسبب إحكام الحصار أثناء الحرب التي استمرت لخمسين يومًا متصلة وراح ضحيتها أكثر من ألفي شهيد ونحو اثني عشر ألف جريح.. وحتى بعد الصمود الأسطوري للمقاومة ومن ورائها شعب غزة الأبيّ، مما أجبر العدو على الانسحاب واللجوء لعقد هدنة مع حكومة غزة. رفضت مصر تضمين اتفاق وقف إطلاق النار في ٢٤ أغسطس ٢٠١٤م، أي بند يتعلق بفتح معبر رفح وإنهاء الحصار!
ويشهد الجنرال “جادي شماني” قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال وقتذاك، بأن إسـرائيل كانت على وشك الاستجابة لبعض مطالب حـماس خلال الحرب إلا أن “السيسي” هو مَن أنقذها مِن ذلك بإصراره على رفض الاستجابة لهذه المطالب. ومن ثمّ يرى “شماني” أن بقاء “السيسي” في الحكم أكبر فترة ممكنة يُمثّل نافذة مهمة لإسـرائيل ويُحسّن من قدرتها على مواجهة التحديات الإقليمية!.[٦]..
ونرى صدقه الآن أكثر بعد نحو ٢٥٠ يوماً من الدمار والحصار والتواطؤ والصمت العاجز على مجازر العدو التي أودت بحياة أربعين ألف شهيد ومائة ألف مصاب حتى الآن!
فبهذه الأعمال وبغيرها يتحول #غُثاء_السَّيْل إلى طوفانٍ هادرٍ يُنهي أيام الاستعمار والاستبداد أو نلقى الله على ذلك، فإن كل إنسان يسأل عن نفسه، كما أخبرنا الله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۗ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ ۚ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ [فاطر الآية ١٨]..
كتبه الفقير إلى عفو الله/ أحمد الشريف
١٢ ذو الحجة ١٤٤٥هـ/ ١٨ يونيو ٢٠٢٤م
#معركة_الوعي_أم_المعارك
هوامش المقال:
[١] صحيح الجامع، الألباني، رقم ٨١٨٣
[٢] بتصرف يسير من كتاب “وقفات مع الأبرار ورقائق من المنثور والأشعار”، للدكتور محمد بن لطفي الصباغ، صـ١٠٥، طبعة المكتب الإسلامي، بيروت سنة ١٤١٣هـ/١٩٩٢م، نقلاً عن “خطط الشام” محمد كرد علي، جـ٢صـ٤٤.
[٣] نور الدين محمود الرجل والتجربة، الدكتور عماد الدين خليل، صـ٣٦، دار القلم، دمشق ١٤٠٠هـ/١٩٨٠م
[٤] نور الدين محمود زنكي.. شخصيته وعصره، د. علي محمد الصلابي، صـ٣٧، مؤسسة اقرأ، ٢٠٠٧م/١٤٢٨م
[٥] هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ماجد عرسان الكيلاني، صـ١٥، دار القلم، الإمارات العربية المتحدة، ١٤٢٣هـ/٢٠٠٢م.
[٦] العلاقات المصرية الإسرائيلية، الدكتور صالح النعامي، صـ١٢٩