أقلام حرة

أحمد الشريف يكتب: فصل جديد في مسلسل التطبيع!.

في ظل الصخب الشديد لأجواء دوري كرة القدم بالمملكة السعودية والانشغال بقمة الأسبوع بين فريقي النصر والأهلي، ضاعت أصداء واحد من أخطر خطابات رئيس الوزراء الإسـرائيلي “بنيامين نتنياهو” الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الجمعة الماضي (٢٢ سبتمبر ٢٠٢٣م) قائلا:

«نعيش هذه الأيام على موعد مع اختراق دراماتيكي كبير بعقد #السلام_مع_السعودية، وإن مثل هذا السلام سوف يقطع شوطا طويلا نحو إنهاء الصراع العربي الاسـرائيلي، ومن شأن ذلك أن يعزز احتمالات السلام مع الفلسطينيين. وسوف يشجع على مُصالحة أوسع بين اليـهودية والإسلام، بين القدس ومكة، بين نسل إسحاق ونسل إسماعيل!..

فنحن اليوم مُقدمين على نعمة عظيمة، نعمة شرق أوسط جديد بين إسـرائيل والسعودية وجيراننا الاخرين. حيث لن نزيل الحواجز بين إسرائيل وجيراننا فحسب. بل سوف نبني ممرًا جديدًا للسلام والازدهار يربط آسيا بأوروبا عبر الامارات العربية المتحدة والسعودية والأردن وإسـرائيل»!..أ.ه‍ـ..

هذه الفقرة من خطاب “نتنياهو” تحتوي على العديد من الألغام والجحور التي لُدغ منها العرب عشرات المرات على مدار نصف قرن من الزمان..  أولها التلويح بورقة القضية الفلسطينية، حيث أن احتلال الأراضي الفلسطينية هو أصل الأزمة ومحور تمركزها، فكان على كل دولة تسير في طريق السلام والتطبيع مع الكيان الصـهيوني ألّا تغفل عن التذرَّع بها لستر العورة وتبرير الخيانة!.

وإذا كان خطاب “نتنياهو” معنيًّا في مجمله بتطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية، فإن ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” ضرب على نفس الوتر خلال لقائه مع قناة “فوكس نيوز” يوم الخميس الماضي ٩/٢١ حين قال: «القضية الفلسطينية ستظل مهمة جداً لمسألة تطبيع العلاقات مع إسـرائيل»!..

وهو ما يرجع بنا إلى اليوم الأول من مسيرة التطبيع التي بدأها الرئيس “السادات” وبالتحديد عندما وقف رئيس الوزراء الأسبق “مصطفى خليل” أمام مجلس الشعب يقولها مدوية: «إن  تسمية السلام بين مصر وإسـرائيل بالسلام المنفرد إنما هو كذبة صريحة، إذ يعدّ هذا السلام نصرًا لمصر والفلسطينيين وستقوم إسـرائيل بالجلاء عن القدس وكافة الأراضي المحتلة وتُفكك مستوطناتها غير الشرعية وسوف يقيم الفلسطينيون دولتهم مكانها»!.

ورغم سرعة الرّد في اليوم التالي على لسان “مناحم بيجين” رئيس الوزراء الإسـرائيلي الذي كان أكثر وضوحًا وواقعية وهو يتحدث أمام الكنيست باحتقار قائلا: «يا دكتور “خليل” دعني أعلمك أن إسـرائيل لن تعود أبدًا إلى حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧م، وتذكر يا عزيزي بأن القدس الموحدة هي العاصمة الأبدية لإسـرائيل، ولن يتم تقسيمها ثانية أبدًا. ولن يتم إنشاء دولة باسم فلسطين في يهودا والسامرة وغزة يا دكتور “خليل”. فالحكم الذاتي كان للسكان فحسب، وليس للأراضي التي يعيشون عليها. ولقد أعلنا عن إنشاء عشر مستوطنات جديدة عشية توقيع المعاهدة لأن إسـرائيل لها كامل الحق في الاستيطان في أي مكان من أراضيها»!.[١]..

إلا أن النظام المصري ظل يروج أوهام السلام ومكاسبه المزعومة لدرجة أن”الأهرام” -أكبر صحيفة عربية- في تقريرها الأول عن الاتفاقية خصصت صفحتها الأولى بكاملها لعناوين كان ثلثاها العلويان يتحدثان عن “مكاسب فلسطينية”، في حين أن الثلث الأخير فحسب كان يتكلم عن “مكاسب مصرية”، أما جريدة “الأخبار” فكانت قاطعة وواثقة في إعلانها: “إسـرائيل سوف تنسحب من الضفة الغربية وغزة”!.[٢]..

ولما صدم “بيجين” العالم بتصديق “الكنيست” رسميا على قانون القدس عاصمة إسـرائيل الموحدة في ٣٠ يوليو ١٩٨٠م، مما أثار غضبًا عربيًّا و #نداءً_سعوديًّا_للجـهاد، فضلا عن إدانة في معظم أنحاء العالم، قام “السادات” بتعليق المحادثات قائلا لبيجين في خطاب رسمي إن القانون أفرغ المحادثات من أي مضمون، ولكنه قام باستئنافها مرة أخرى حتى لا يؤثر على فرصة نجاح الرئيس الأمريكي “كارتر” في الانتخابات باعتبار أن السلام مع إسـرائيل كان أحد أهم إنجازاته الخارجية!.[٣]..

فلما سقط “كارتر” وزاد تشدد الجانب الإسرائيلي في إملاء شروط السلام، تراجع النظام المصري عن وعوده السابقة واستعاض عنها بأسطورة جهنمية وهى إلقاء اللوم على الفلسطينيين الذين أضاعوا الفرصة ولم ينضموا إلى “السادات” في مسيرته من أجل السلام، ومع الوقت وجدت الأنظمة والشعوب العربية الراحة النفسية في ذلك الوهم وأخذت تبغبغ مرددة تلك الأكذوبة على أنها حقيقة راسخة!.[٤]..

أما أخطر ما جاء في خطاب “نتنياهو” هو تلك العبارة التي وجّه فيها كلامه لحكام السعودية: «التطبيع مع المملكة سوف يشجع المُصالحة بين اليـهودية والإسلام، بين القدس ومكة…»، والتي تُعبّر عن الواقع المرير المخزي والعار الذي يجللنا من ضياع “القدس” مسرى نبينا ﷺ وفيه المسجد الأقصى الذي بارك اللّه حَوْلَه!.

ففي العبارة يتحدث “نتنياهو” بكل صلف وغرور وكأنه يملك “القدس” بالفعل وتم التسليم له بذلك وانتهى الأمر وأصبحت المدينة المقدسة عاصمة الدولة العبرية..

وهو الحديث الذي يستند إلى ميراث ضخم من التفريط والتنازلات منذ ضياع المدينة في مغامرة “عبد الناصر” الحمقاء والهزيمة المذلة لمصر والعرب في نكسة يونيو/حزيران ١٩٦٧م، مرورا بإعلانها عاصمة موحدة بعد الاطمئنان إلى خروج مصر من دائرة الصراع العربي الإسـرائيلي على إثر سلام “السادات” الأسود.. ثم التنازلات العربية التي انحدرت من دعاوي الجـهاد والمقاطعة والممانعة إلى الهرولة في مهرجانات التطبيع المجانية مع العدو وفتح السفارات وإقامة العلاقات التجارية والدبلوماسية وحسن الجوار!.

وقد خرج الأمر في حالة المملكة للعلن للمرة الأولى عندما سُئل الشيخ “ابن باز” -غفر الله له- بعد عقد اتفاقيات أوسلو مع السلطة الفلسطينية: «في ظل التفاهم بين العرب واليـهـود، هل تجوز زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه، في حال الموافقة من الأنظمة العربية؟!.»

فكانت إجابة الشيخ: زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه سنّة، ولا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، منها المسجد الأقصى!

وهو ما تناوله بالنقد وقتها المفكر الإسلامي الأستاذ “فهمي هويدي” في مقاله الأسبوعي -تم حظره من النشر- موضحاً أن الشيخ اِقتَطَع السؤال من سياقه (ظل التفاهم بين العرب واليهود) ، وكانت الإجابة بصفة عامة، تلبيسا على الناس ومجاملة للأنظمة الموالية لليهـود!.

وأضاف “هويدي”: «.. ولأن العبرة بالمآلات كما يقول الأصوليون، فإن زيارة المسجد الأقصى، وإن كانت سنّة، إذا كان من شأنها تكريس الاحتلال والتسليم بالمخطط الإسرائيلي لمستقبل المدينة، الذي يدّعي فيه الصهـاينة إن المدينة مغلقة سياسيا ومفتوحة دينياً، فإن الزيارة هنا تُعدّ جريمة في حق المسجد، وفي حق المقدسات الإسلامية، فضلاً عن حق الشعب الفلسطيني!.

من هذه الزاوية فإننا لا نتردد في القول بأن هذه الزيارة لا تجوز شرعاً قبل أن يفك أسر المسجد الأقصى، ونزعم أن القيام بها في الظرف الراهن يُعدّ إثماً يحاسب الله عليه من اقترفه يوم القيامة!.

فإن الله سبحانه وتعالى يقول:﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ..﴾[البقرة: الآية ٢١٧]

فالآية لا تجيز القتال في الأشهر الحرُم، وتعتبر ذلك إثمـاً كبيراً، لكنها تعتبر فتنة المسلمين في دينهم وإخراجهم من ديارهم إثمـاً أكبر عند الله تعالى.. وبذات المنطق القرآني، نقول إن القضية المُلحّة ليست هى الصلاة في المسجد الأقصى، لأن الإثم الأكبر عند الله هو احتلال المدينة وإخراج أهلها من ديارهم.. وإذا كانت الزيارة نافلة وسنّة، فإن الدفاع عن كرامة المسلمين فريضة لازمة، ولا يجوز شرعاً ولا عقلاً أن تُقدّم نافلة على فريضة!.».[٥]..

أما الجُحر الأخير في مقالنا اليوم فهو الموجود في تلك العبارة السحرية عن “المكاسب الاقتصادية” التي تذكرنا بأوهام الرخاء والرفاهية الذي جرى التعهد بتحقيقه عقب عقد اتفاقية “كامب ديفيد” سنة ١٩٧٨م بين النظام المصري والدولة الصـهيونية بعد سنوات من إراقة الدماء والدمار جرّاء الحروب بينهما..

وهو ما تحقق بالفعل ولكن لصالح العدو الصـهيوني دون غيره حيث قام بتخفيض إنفاقه على الناحية الأمنية وتسريح قوات الاحتياط التي تمثل نسبة كبيرة في قوة سوق العمل بالمجالات الاقتصادية المختلفة مما أدى إلى تجاوز النمو الاقتصادي الذي شهدته إسـرائيل في ثمانينات القرن الماضي التوقعات المألوفة، ليس لناحية ارتفاع نسبة النمو فحسب، بل لمترتبات النمو وانتقال بنية الاقتصاد إلى طور جديد أرقى أيضا، لقد دخلت الصناعة من الباب الواسع مرحلة الثورة الإلكترونية، كما توسعت في مشاريع تحلية مياه البحر على نطاق واسع مما ضاعف الأراضي الزراعية في سنة ١٩٨٥م بنسبة تساوي ١٨ بالمائة من إجمالي الأراضي سنة ١٩٨٠م، وزيادة حجم الإنتاج الزراعي بنسبة ١٤٠ بالمائة مقارنة بنظيرتها سنة ١٩٧٥م، وهو ما حدث بصورة مماثلة في مجالات السياحة والصناعة والتجارة الخارجية..[٦]..

في النهاية أتساءل بكل أسى، إذا كانت السعودية ومعها العراق وسوريا وليبيا هم قادة مقاومة التطبيع والتفريط في نهاية السبعينيات، فمن الذي يمكن أن يقودها اليوم ولم يبق من البلاد العربية من يرفض التطبيع والاعتراف بدولة الكيان ويستعصي على الاختراق الصـهيوني سوى دولة “الجزائر” الأبية التي يفصلها آلاف الأميال عن دول المواجهة؟!.

أم أن التعويل سوف ينصب فقط على المقاومة في فلسطين وجنوب لبنان المعتمدين على دعم “الجمهورية الإيرانية” التي كانت من قبل أكبر المطبعين أيام حكم الشاه “محمد رضا بهلوي”، ولكنها الآن تسعى لملء الفراغ في ظل هوان الأنظمة العربية وشعوبها غثاء السيل؟!.

كتبه الفقير إلى عفو الله/أحمد الشريف

٢٦ سبتمبر ٢٠٢٣م / ١١ ربيع الأول ١٤٤٥هـ

#معركة_الوعي_أم_المعارك

هوامش المقال:

[١] السادات، ديفيد هيرست وإيرين بيسون، الطبعة الأولى نوفمبر ١٩٨١، صـ٤١٤، طبعة دار أكتب، سنة ٢٠١٦م..

[٢] السادات، مصدر سابق ، صـ٣٩٥..

[٣] السادات، مصدر سابق، صـ٤٢١

[٤] للتفاصيل يرجى مراجعة مقالي بتاريخ ١٩ يوليو ٢٠٢٠م، تحت عنوان: السادات والحق الفلسطيني أكاذيب ووقائع !.

[٥] المقالات المحظورة، فهمي هويدي، صـ١٦٨، مقال مراجعات في الفقه السياسي، الممنوع من النشر بتاريخ ١٠ يناير ١٩٩٥م..

[٦] الاقتصاد الإسـرائيلي، د/حسين أبو النمل، صـ٢٣٨، صـ٢٧٥، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ١٩٨٨م..

#التطبيع_في_بلاد_الحرمين !.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى