أحمد سعد حمد الله يكتب: الساجدون للشيطان
في أيامنا الصعبة هذه، يكاد المواطن العربي، أن يٌصاب بالهوس أو الجنون، من فرط اليأس، وشدة العجز، عن الوصول إلى تفسير، يفسر له الحالة التي عليها أنظمتنا العربية، من صمت، وتواطؤ، وتخاذل، وخنوع، وجبن، أمام المقتلة الكبرى، التي يتعرض لها إخواننا في قطاع غزة، على يد العدو الصهيوني!
يسأل المواطن العاقل نفسه بجنون، ما الذي يجعل حكامنا، يبتلعون ألسنتهم، ويصمون آذانهم، تجاه كل هذا الإجرام الصهيوني الذي يمارسه اليهود في بلادنا المسلمة، ضد إخوة لنا في الدم والأرض؟ فكم هو الثمن الذي يحصلون عليه مقابل كل هذه الخسة، وما هي المكاسب التي يجنوها من صمتهم وتجاهلهم، لعمليات الإبادة التي تتم في حق سكان غزة، من ذبح، وحرق، وشواء، وسلخ، وتقطيع، وسحق عظام؟!
هل ارتد حكامنا عن دين الإسلام، دون أن يعلنوا ردتهم؟
أم أنهم تحولوا يهودا سرا؟
أم أصابهم خلل عقلي جماعي، سلبهم شرفهم، وأفقدهم أخلاقهم، وأنساهم دينهم، فباتوا يرون المنكر معروفا، والمعروف منكرا؟
فمن غير المنطقي أو المعقول أن يصابوا جميعا – إلا ما رحم ربي – وفي نفس التوقيت، بكل هذه الخسة، وتلك البلادة، أمام مأساة إنسانية تمزق الأكباد، وتدمي القلوب، وتحرك الصخور، فضلا عن أنها تمس إخوة لنا في الله والوطن؟!
فما السر؟ وماذا وراؤه؟
قبل محاولة الإجابة أو التفسير، لابد من التأكيد على أن هناك العديد من الأسباب التي تفرض علينا التماس العذر للمواطن العربي في ذهوله وتشتته تجاه تلك المواقف، خاصة إذا ما نظرنا إلى طبيعة الحالة السياسية الجارية بمنطقة الشرق الأوسط في وقتنا الحالي، وما يحيط بها من تشابكات وتعقيدات، خصوصا في العشر سنوات الأخيرة، فهي حالة يصعب على المواطن العادي أن يلم بها، أو يفهمها، خصوصا بعد أن أصبح هذا المواطن يتم توجيهه بالقوة القاهرة من إعلام محلي ودولي، شديد الاستقطاب نحو فهم رؤية واحدة، تٌبطل الحق، وتٌحق الباطل، ومن ثم فهو لكي يفهم ما يجري من حوله ويلم به، يحتاج لأن يكون قادرا على قراءة الأحداث كلها على اتساع رقعتها، وكثرة تشعبها، وأن يكون لديه من الخيال السياسي ما يمكنه من تحليل تلك الأحداث وبنفسه، لا عبر وسائط، أو خبراء تحليل سياسي، منهم الفاهمون وأكثرهم الجاهلون، ومن قبل هذا وذاك أن يكون واسع الأفق، ليتمكن من رؤية المشهد السياسي كاملا، بأبعاده الثلاثة مجتمعة، محليا وإقليميا ودوليا، لا بما يجري في غزة ولبنان فقط، ثم يربط ما يجري بعيدا، بما هو حاصل في منطقة الشرق الأوسط، عندها يستطيع تفسير ما يجري، حيث سيدرك أ، التغييرات الجغرافية الواسعة التي بدأت ملامحها تنجلي منذ سنوات قليلة، بإعادة تقسيم المنطقة، وترسيم حدودها بـ«سايكس بيكو» جديدة، هي الهدف الأكبر الذي يتم الترتيب له الآن، بمباركة من الأنظمة العربية، بيد أن مهمة المواطن ستكون عسيرة للغاية، خاصة في ظل امتلاك أنظمتنا الحاكمة (العميلة) لمنظومة إعلامية ضخمة، تعمل ليل نهار على تغييب عقله، وتُلبّس عليه الحقائق والأفكار، وهو أمر نجح فيه هذا الإعلام إلى حد كبير، حتى صارت الغالبية من الناس غير قادرة على التمييز بين الصديق من العدو، أو الحليف من الغريم، حتى أصبح الكثيرون من أبناء الأمة يتبنون أفكارا مغلوطة، وأخبارا كاذبة، يروج لها هذا الإعلام، تهدف بالأساس لخدمة العدو الصهيوني، وتبرير إجرامه في غزة تحديدا، بل توجيه اللوم على قيادات المقاومة الفلسطينية، خصوصا حركة حماس، واتهام قياداتها، باعتبارهم هم من بدأوا حرب السابع من أكتوبر، دون أن يحسبوا عواقبها، وهم المسؤولون وليس اليهود عن كل ما يجري في غزة من تدمير، لأنهم – أي قيادات حماس – دخلوا في معركة مع عدو لا قبل لهم به، وأنهم هم الذين داسوا طرف إسرائيل وليس العكس، ومن ثم فالعتب ليس على إسرائيل، إنما على حماس وقياداتها!
والحقيقة أن من يقرأ التاريخ ويتأمل الواقع، يستطيع أن يجيب عن الكثير من الأسئلة التي تشغل عقل المواطن، لا سيما أسئلته المتعلقة بسر هرولة حكامنا العرب نحو إسرائيل، والتطبيع العلني معها، بل وانصياعهم لها، فمن يقرأ التأريخ ويتأمل الواقع، سيعرف أن وجود هؤلاء الحكام، في الحكم، وحفاظهم على عروشهم مرهون برضاء إسرائيل عنهم، فهم يعوون جيدا أن إسرائيل طفل أمريكا المدلل، وهي المفتاح السحري لدخول قلب الأمريكان، ومن ترضى عنه إسرائيل، ترضى عنه أمريكا، وتأكيدا للمؤكد فأمريكا هي الحاكم الفعلي الحالي للشرق الأوسط، وهي الممسكة بجميع أوراق اللعبة السياسية في المنطقة، وهي وحدها القادرة على رسم المنطقة، وهندستها، متى شاءت، وكيفما شاءت، وهي أيضا صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة، في وصول هذا أو ذاك إلى كرسي الحكم، بل وصاحبة القرار في بقاء نظام، ورحيل أخر، وهي لديها من القوة، والتأثير، والإمكانات، والأدوات، والأجهزة، والألاعيب، والحركات، ما يمكنها من فعل كل هذا، دون إشعال حرب، أو إطلاق قذيفة، أضف إلى ذلك أن حاجة حكامنا لأمريكا في الفترة الحالية، وتحديدا بالعشر السنوات الأخيرة، وأكثر تحديدا من بعد ثورات الربيع العربي، أصبحت مهمة لهم أكثر من أهميتها في أي وقت سابق، فقبل الربيع العربي كان حكامنا العرب ينامون ملء جفونهم، هانئين بالأمان، مطمئنين للبقاء في مواقعهم، واثقين من الحفاظ على عروشهم حتى الموت، حيث الشعوب مستأنسة، ولا خوف من ثورانها، والجيوش مستأمنة، ولا قلق من انقلاباتها، وبالتالي لم تكن هناك حاجة ملحة لمداهنة الأمريكان أكثر مما كان قائما، إلا أن الانفجار المباغت للربيع العربي وخروج الشعوب على حكامها، جاء ليقلب كل الموازين، ويعيد كل الحسابات، ويخيف كل الحكام، فقد بيّن لحكامنا أن عروشهم على شفا جرف هار، وفي خطر شديد، وأن إزاحتهم عنها، وسلبها منهم أصبح سهلا وممكنا، بل ومتحققا، حيث حصل مع أربعة رؤساء راحلين، كانوا من أكثر الرؤساء العرب رسوخا في الأرض، وتعميرا في المنصب، وهم زين العابدين في تونس، وحسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن، ولولا أن تلك الثورات تم إخمادها بالجيوش، والقوة العسكرية، وكل وسائل الردع، لامتد ربيعها لكل أرجاء المنطقة، ولطال بقية الحكام، لكنهم ومع ذلك لازالوا يستشعرون الخطر، ويخشون السقوط، حيث بلادهم ليست بمنأى عن رياح التغيير، والشعوب التي كانوا يظنون أنها قطط مستأنسة، تبين أنها وحوش ضارية، مستعدة للانتفاض والانقضاض، فقط تتحين الفرصة، وإذا ما انتفضت وانقضت، فلا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع التصدي لها أو الوقوف أمامها، ومن ثم فقد رأوا، أنهم في حاجة لمن يحميهم من تلك الوحوش، ويعينهم على مواجهتها إذا ما غضبت، وبطبيعة الحال لم يكن أمامهم سوى ماما أمريكا، فهي دار الأمن والأمان، بل هي الحضن الكبير، المفتوح طول الوقت لاحتواء الأنظمة الديكتاتورية وحمايتها، كما أنها الحصن القوي الذي يتحصن به الطغاة والمتجبرين، ولعل ما زاد حاجة حكامنا العرب اليوم، للتوسل للأمريكان، والتزلف إلى إسرائيل، والسجود للشيطان إذا لزم الأمر، هو جرائمهم التي ارتكبوها، في حق الشعوب العربية، أثناء وبعد ثورات الربيع العربي، فباستثناء النظام الحاكم لدولة قطر، والذي اتخذ موقفا محترما من الثورات، بالانحياز للشعوب وليس الأنظمة، فإن بقية الأنظمة العربية، راحت تواجه الشعوب، بالسلاح والذخيرة الحية، لتأديبها على ما اقترفته من ذنب، بالخروج على أنظمتها الحاكمة، بل إن بعضا من الدول الغنية، راحت تمول وتدعم الثورات المضادة الممثلة في الجيوش والأجهزة الأمنية للشد من أزرها وتقوية قلوبها على الشعوب، فنجحت الجيوش والأجهزة في إخماد كل الثورات، بل وملاحقة كل من شارك فيها، بالقتل، أو الإخفاء القصري، أو التغييب في السجون، أو الطرد من البلاد والتشريد، وقد وصل الخوف من الشعوب، درجة الكفر بها والرغبة في التخلص منها، المؤيد مثل المعارض، حيث أنهم انقلبوا لاحقا على اتباعهم ومؤيديهم، ممن ساعدوهم وباركوا انقلاباتهم على الثورات، فراحوا يضيقون عليهم، ويحرمونهم من ممارسة حقوقهم السياسية، بل وصل الأمر لتحديد إقامة الكثيرين في منازلهم، أو حبسهم بالسجون، وتم التعامل مع الجميع على حد السواء، بأنهم خصوم وأعداء، وعليه قطعت الأنظمة العربية كل خيوط الثقة والود بينها وبين شعوبها، وصار العداء متبادلا، وبالتالي لم يكن أمام تلك الأنظمة من سبيل، سوى الارتماء تحت أقدام الأمريكان، والانسحاق للصهاينة، فإما هذا، أو الثورات وفقدان العروش!