أحمد سعد حمد الله يكتب: كلهم بلبن!

مرت أزمة محلات بلبن، بعبثيتها، وتفاهتها، وضجيجها، كما مرت، أزمات أخرى كثيرة على نفس الوزن، والمستوى.
فتدخل عبد الفتاح السيسي الذي يمثل رأس السلطة المصرية، لحل أزمة بكل هذه التفاهة، يجسد بلا شك، طبيعة مرحلة، مرحلة وصلت فيها سفاسف المشكلات وتوافه الأزمات، إلى حد تدخل رئيس دولة بحجم الدولة المصرية.
وقد قفز إلى ذهني أثناء متابعتي لتلك الأزمة، تساؤلات عدة:
أولا: إذا كان هذا هو حجم ومستوى وقيمة المشاكل الإدارية المصرية، التي تستوجب تدخل رأس السلطة بنفسه لحلها، فما هو نوع المشاكل والأزمات التي يمكن أن تحلها الحكومية؟
ثانيا: كيف سيكون الحال مع الأزمات الكبرى التي تعانيها الدولة المصرية، في قطاعاتها المختلفة، الصحية والتعليمية والزراعية والصناعية والاقتصادية؟
ثالثا: هل هذه السلطة، هي سلطة مسؤولة، جديرة بموقعها، يمكن أن يٌعتمد عليها، ويأتمنها الشعب على المهام الكبرى، من حفاظ للأمن القومي للبلد، وحماية للحدود؟
والإجابة على كل تلك التساؤلات، ليست في حاجة إلى تريث أو تفكير، فالعينة بينة، والحال كذلك، حيث إن ما وصلت إليه الدولة المصرية، في تلك الحقبة التي نعيشها الآن، وتحديدا تحت حكم السلطة الحالية، جعل مصر تتراجع إلى الوراء مئات السنين، حتى أصبحت في ذيل دول الإقليم، بعدما كانت هي القائدة والمرشدة والنموذج الذي يٌحتذى به!
لعنة الله على الترند!
غني عن الذكر، أن أزمة محلات بلبن، لم تكن هي الأزمة التافهة الوحيدة، التي يتصدى لها رئيس الدولة المصرية، فقبلها بأسابيع قليلة، شاهدناه يتدخل للمطالبة بتصويب مسار الدراما المصرية، من الانهيار الذي أصبحت عليه، ذلك الانهيار الذي تجسد في كل الأعمال الدرامية التي قدمها التليفزيون المصري، خلال شهر رمضان الأخير!
كما رأيناه يحرص في نفس الوقت، على الإشادة بالفنان سامح حسين، وما كان يقدمه الممثل، على وسائل التواصل الاجتماعي من خلال برنامجه (قطايف) ملمحا أي السيسي، إلى أن هذا النوع من الفن، هو ما يجب تقديمه للجمهور، معتقدا أن ما قدمه سامح حسين، كان فنا أو دراما، باعتباره ممثل!
واقعيا، يمكن القول، إن السيسي لم يكن جادا في الموقفين، لا في الاعتراض على مستوى الدراما، ولا في الإشادة بسامح حسين، بقدر ما كان يهمه ركوب الترند، وقد كان الترند في ذلك الوقت، هو السخط من الأعمال الدرامية، والإشادة بحلقات سامح حسين، ولو أنه كان جادا في موقفه من الارتقاء بالأعمال الفنية، لتحرك منذ سنوات وليس الآن، خصوصا أن ما شهدته الدراما المصرية في رمضان الفائت من انحلال أخلاقي وسلوكي، ليس بجديد عليها، فالانهيار بدأ منذ فترة طويلة، لكنه تفاقم بشكل مرعب في الـ12 سنة الأخيرة، أي تحت حكم السيسي وليس غيره، فالفن والدراما في عهده، هو التي أنتجت لنا محمد رمضان، وحمو بيكا، وحسن شاكوش، وغيرهم!
كما أن ما قدمه سامح حسين في برنامجه (قطايف) لم يكن بالعمل الفني، ولا بالديني أيضا، حتى وإن خلط الاثنين ببعض، فيكون هو النموذج للفن المحترم الذي ينشده السيسي، أو المنهج الصحيح لتجديد الخطاب الديني إلى الشكل الذي يرغبه، فما كان يقدمه سامح، هو عمل أقرب لحصص ومحاضرات التنمية البشرية، التي تذخر بها مواقع التواصل الاجتماعي، ويقدمها العديد من صناع المحتوى، أصحاب العلم والموهبة، والذين يفوقون سامح حسين مئات المرات، ولولا أن الذي يقدمها هو فنان وممثل في الأساس، وأنه كان يستشهد بآيات من القرآن، لما حقق كل هذا النجاح الذي حققه، فقد تعامل معه الجمهور، معاملة الداخل في الإسلام حديثا، الذي يجب الاحتفاء به، والترويج له والوقوف خلفه حتى يصلح إسلامه. بيد أن موقف السيسي منه وإشادته به، لم تكن سوى مواكبة موجة، وركوب ترند ليس أكثر. الا لعنة الله على الترند، ومن اخترعه!
كلهم بلبن
لا جدال في أن الشهرة التي حظيت بها محلات بلبن في الفترة الأخيرة، هي شهرة زائفة، لن تستمر طويلا، فهي شهرة قصيرة العمر، والسبب في ذلك هو أن الذي صنعها، وكبرها، ونفخ فيها هو الترند، وليس العلامة التجارية، أو السمعة الجيدة، وتوقعي أن وهج الشهرة هذه سينطفئ قريبا جدا، خاصة إذا ما علمنا، أن كل المنتجات التي تقدمها تلك محلات بلبن، وأخواتها (قشطوطة وبهيج وكنافة وبسبوسة وكرم الشام) لم تكن أبدا بالمنتجات التي تستحق الضجة المثارة حولها، كما أنها لا تدفع للشهرة الكبيرة التي وصلت إليها المحلات بسرعة البرق، ولأني جربت أحد هذه المنتجات، فإني أستطيع القول، بأن ما جربته كان منتجا رديئا، شديد الرداءة، وهو أقرب ما يكون إلى طبق كشري، مع اختلاف المكونات، عجنوا فيه البسبوسة على الأرز بلبن، على الآيس كريم، على أشياء أخرى، لا أحد يعرفها، ولا علاقة لها ببعضها، بل سموها بأسماء، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا علاقة لها بطبيعة ونوع المنتجات، من هذه الأسماء مثلا (الجريمة والقنبلة ودوبامين وسيروتونين وأدرينالين، فكانت النتيجة هي بلبن، وقشطوطة و….) لذلك فأنا على يقين تام من أن كل الناس التي جربته مرة، لم تفكر في تكرار التجربة مرة ثانية، مثلما فعلت أنا.
وإذا كان بلبن قد نجح بفعل الترند، في أن يسحب البساط من تحت أقدام، محلات عريقة مثل المالكي، التي صنعت أسمها وتاريخها عبر عشرات السنين، فإن بلبن وأمثاله، مجرد زبد بحر، سيذهب جفاء، بعد انتهاء مرحلة الترند، ثم يمكث ما ينفع الناس.
والشاهد أن الترندات وجدت لكي تفنى وتتبخر، لا لتبقى وتدوم، ولعل المتابع للسوشيال ميديا، يدرك هذا جيدا، فكم من صانع محتوى (يوتيوبر أو تيك توكر وغيره)، رفعتهم الترندات إلى عنان السماء، ثم جعلتهم حديث العالم كله، حتى باتت تتخطفهم القنوات الفضائية، وتفتح لهم دول الخليج، أحضانها، وأبوابها، وخزائنها، ثم وفي لمح البصر ظهرت ترندات جديدة، جاءت بمشاهير غيرهم، وجعلت من قبلهم نسيا منسيا.
هناك المئات بل الألاف من النماذج التي تثبت ذلك، لكني سأخص بالذكر هنا التيك توكر المعروفة باسم (أم خالد) والتي رأينها في رمضان قبل الماضي، وقد تسابقت عليها وكالات الإعلان، من أجل التعاقد معها، للظهور في إعلانات تليفزيونية، حتى قيل إن أجرها زاد عن أجر فنانات شهيرات ظهرن في إعلانات مماثلة، فقد كان الهدف هو الاستفادة من ترنداتها، لا من موهبتها في التمثيل، لكن وفي رمضان التالي، غابت أم خالد عن الأضواء تماما، ونجمها الذي لمع وتوهج العام الماضي، خبأ وانطفأ وتلاشى، ولم يعد أحد يذكرها أو يبحث عن فيديوهاتها من قبل، فقد انتهت صلاحية الترند!
والواقع أن قوانين الترند التي صعدت بمحلات بلبن في لمح البصر إلى عنان السماء، هي من باتت تحكم حقبتنا الزمنية الحالية، بل وبكافة أحداثها ومجرياتها، حتى بتنا نرى الأحداث الجسام، التي يندر حدوثها على مر الزمان، تقع، وتجري، وتنتهي، في فترات وجيزة جدا، وكأن الأحداث نفسها، انضمت لصناع المحتوى، بحثا عن الترند، فمن ذا الذي كان يتخيل، إننا خلال أقل من 15 سنة فقط، تمر بنا كل تلك الأحداث الجسام التي مررنا بها، من ثورات، وانقلابات، وحروب، وزلازل، ووباء، وغير ذلك من الحوادث، التي كان يؤرخ للواحد منها تاريخا مستقلا، تسجل به الحقب الزمنية المختلفة؟ أما اليوم فقد صارت الأحداث الكبرى المفاجئة، شيئا معتادا، نتعاطى معه بهدوء، ونتعايش معه بصبر، ونتقبله ونرويه ببرود، وكأنه نتيجة مفاجئة في مباراة كرة قدم، ليس أكثر!
والحقيقة أن حالا مثل هذا ليس كله باللون الأسود، كما سيراه البعض، إنما فيه الكثير من البياض والضياء، فهو على الأقل يعطينا الأمل، في زوال غمتنا قريبا بإذن الله مثلما تزول الترندات، كما أنه يبشر بانقشاع سريع لأوضاع سيئة تعيشها أمتنا العربية والإسلامية، من فساد، وطغيان، وحض على الرذائل، وحرب على الدين، فكما أن الأنظمة التي جاءت بكل هذا البلاء، قفزت للسطح بشكل مفاجئ وسريع، فإنها ستختفي بإذن الله، بنفس السرعة والمفاجأة التي جاءت بها، مجرد ترند.
فكلهم بلبن!