أحمد سعد فتال يكتب: أقلام الشيطان.. حين يصير التضليل «مهنة»
«لا تُخاض المعارك فقط بالأدوات العسكرية؛ بل تحتاج للآلة الإعلامية والفتوى الشرعية»، هذا ما يطبّقه كل الطغاة المحاربين للشعوب على مرّ العصور، بمن فيهم السفّاح أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، الذي يستنسخ أساليب الطغاة جميعها، ويمارسها على الناس القابعين بمناطق سيطرته قهراً، دون انضباط بشرع أو حياء من البشر أو مراعاة للأعراف، فكل وسيلة عنده مباحة ما دامت تحقق الغاية.
ركّز الجولاني منذ سنوات على جانبي الإعلام والفتوى لشرعنة الجرائم التي يقترفها، فقد أسّس عدة منافذ إعلامية (راديو، مركز دراسات، صفحات على فيسبوك، وقنوات على تيلغرام) تروّج لروايته تحت غطاء «الاستقلالية» و«الثورية»، واستمال بضعة إعلاميين لتصدير أطروحاته للشارع المحلي والعربي، كما اشترى عدداً من المحسوبين على أهل العلم، بمن فيهم خصوم سابقون له، كانوا ينعتونه بأبشع الصفات فانقلبوا تحت تأثير المال إلى أشد المنافحين عنه.
وإن المتتبّع للنهج الفكري للإعلاميين والمشايخ «الجولانيين» يرى أنهم يردّدون ثلاث مقولات مشتركة، ينطلقون منها لإعطاء الشرعية للجولاني، الأولى: «إدلب كيان سني»، والثانية: «إدلب آخر قلاع الثورة»، والثالثة: «مكاسب الثورة في إدلب». وحين تنظر مليّاً في واقع إدلب، وتقارنه بهذه العناوين الثلاثة، تدرك يقيناً أن هؤلاء ليسوا إلا «أقلام شيطان» يكتبون بحبر الطاغية؛ للتأسيس للباطل وتجميل العمالة، طمعاً بدولارات معدودة يرميها لهم الجولاني كل آخر شهر.
وإن الإنسان لا يحتاج إلى كثير من الذكاء والبحث لتفكيك المقولات الثلاث، وتبيان كذبها، وإظهار تضليلها، فـ«الكيان السني» هو كيان بعثي، فالشريعة لا سيادة لها، والدماء غير معصومة، والأموال غير محترمة، والحرمات مستباحة، فقد ضجت الأخبار وتواترت الشهادات من إدلب عن اعتقال الجولاني لآلاف المؤمنين الصادقين، وقتله للمئات منهم تحت التعذيب، وبالتصفية المباشرة، ودفنهم في مقابر جماعية؛ وهذا على فظاعته جزء يسير من إجرام الجولاني الذي يشمل تعطيل القتال وحماية حدود عصابة الأسد تنفيذاً لمقررات أستانة وسوتشي، وسرقة مال الناس بحجة «الضرائب» و«الترخيص» و«الزكاة»، ونشر المنكرات عبر السماح بالتبرج والاختلاط والترخيص للجمعيات النسوية، فإدلب في واقع الحال هي منطقة «حكم جبري» شأنها في ذلك شأن بقية بلاد المسلمين.
وأما أن إدلب «آخر قلاع الثورة» فالوقائع تنفي ذلك، إذ إن بقاء إدلب خارج سيطرة نظام الأسد هو قرار أميركي، وهذا ما صرّح به مسؤولون أميركيون سابقاً، فلا شأن للجولاني وأضرابه من قادة الفصائل الوظيفية بحماية إدلب ومنع تقدم ميليشيات الأسد نحوها، فهؤلاء القادة سلّموا مساحات شاسعة في أرياف إدلب وحلب وحماة عام 2020 حين أُمروا بالتسليم والانسحاب، ولو أُومروا بأن يفعلوا ذلك في إدلب لفعلوا. وكلامنا هذا لا يعني تخوين المجاهدين الصادقين، فهيئة تحرير الشام وغيرها من الفصائل تحوي على عديد المجاهدين الذين لا يُشك بنزاهتهم، إلا أن هؤلاء لا يملكون قرار السلم والحرب، كما أن قادة الفصائل يمتلكون من الأساليب الخبيثة التي تمكّنهم من التحكم بالعناصر الشرفاء وتسييرهم نحو القتال أو الانسحاب وفق ما تقتضيه الخطة الدولية، وهذا ما حصل في العديد من نقاط الاشتباك على مدى السنوات الفائتة.
وأما عن «مكتسبات الثورة» في إدلب، فهي مكتسبات تنعي الثورة، فمد الطرقات، وفتح المولات، وما شاكل ذلك، يدل دلالة قاطعة أن الرجل بينه وبين النظام حالة سلم تامة، وأنه يسير وفق الاتفاقات الدولية التي تقضي بتجميد الجبهات ومنع أي عمل عسكري، وهذا ما تكفله الجولاني، فأصبح حرس حدود لدى نظام الإجرام يمنع أي عمل عسكري ضده، وأشغل الناس بهذه المظاهر التي هي في حقيقتها إعلان لانتهاء الحرب ومباشرة لحالة السلم مع النظام المجرم، والسير الفعلي في الحل السياسي رجاء أن يكون أداة من أدواته.
لا شك أن كل من يدافع عن الجولاني وسلطته من أقلام الشيطان، الإعلاميين والمشايخ، هم شركاء له في كل قطرة دم أُريقت، وفي كل نفس حُبست، وفي كل ليرة سُرقت، وفي كل منكر أُشيع، فالجولاني يحكم المسلمين بالحديد والنار، ويخدم مصالح الاستعمار، مقلّدا في ذلك الحكام الخونة، فمن يدافع عنه كمن يدافع عن أولئك، فالظلم واحد، والجريمة واحدة، لا فرق أن يرتكبها علماني صريح أو علماني ملتحٍ محسوب على «السنة»، وآتٍ من خلفية جهادية، فلينتبه سدنة الباطل إلى عظم جريمتهم، وليقلعوا عنها إن كان لهم بقية من دين أو مروءة، وليقُم كذلك أهل الثورة بفضحهم وتعريتهم؛ ليحذر الناس منهم وينبذهم المجتمع، قال سفيان الثوري رحمه الله: «إذا رأيت القارئ يلُوذ بالسلطان فاعلم أنه لصّ» (سِير أعلام النبلاء).