أحمد سعد فتال يكتب: إنكم تضعونها في غير موضعها (1)
من أكثر الآيات التي يشيع فهمها الخاطئ بين المسلمين هي قوله جل مجدُه: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]. ولعل أي عالم أو حامل دعوة يلحَظ أن الناس تستخدم هذه الآية عند الحديث عن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعي لإقامة سلطان الإسلام، حيث يقولون: «إن هذا العمل عظيم، لكنه قد يعرّض الإنسان لفتنة السجن وبطش الحكام، والله تعالى يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلُكَةِ}، لذلك ينبغي أن نتهتم بعائلتنا وتربية أبنائنا ولا نتعرّض للشأن العام، فالله يأمرنا ألا نعرض نفسنا للهلاك».. هكذا يقولون!
والحق أن الناس تضع هذه الآية في غير موضعها، بل تفهمها على عكس معناها الصحيح، فإن المقصود من قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} هو عدم الإنفاق في سبيل الله، وترك قتال أعداء الله، والمقطع الذي يسبقه يوضح ذلك: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
روى الإمام الطبري في تفسيره عن ابن عباس: {ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، قال: «ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل الله، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله». وروى الطبري عن البراء بن عازب، قال: «سأله رجل: أَحْمِل على المشركين وَحدي فيقتلوني، أكنت ألقيتُ بيدي إلى التهلكة؟» فقال: «لا إنما التهلكة في النفقة. بعثَ الله رسوله، فقال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} [سورة النساء: ٨٤]».
ومن أظهر الآثار التي تدل على مراد الله من هذه الآية، وكيف أن بعض المسلمين يفهمونها خطأً هو كلام الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري أثناء غزو القسطنطينية، حيث روى الإمام الطبري أيضاً عن أسلم أبي عمران قال: «غَزونا المدينة، يريد بالقسطنطينية… قال: فصففنا صفَّين لم أر صَفين قط أعرضَ ولا أطولَ منهما، والروم مُلصِقون ظهورهم بحائط المدينة، قال: فحمل رجل منا على العدو، فقال الناس: مَهْ! لا إله إلا الله، يلقي بيده إلى التهلكة! قال أبو أيوب الأنصاري: إنما تتأوّلون هذه الآية هكذا، أنْ حَمل رجلٌ يُقاتل يلتمس الشهادة، أو يُبلِي من نفسه! إنما نزلت هذه الآية فينا مَعشرَ الأنصار! إنا لما نصَر الله نبيه وأظهر الإسلام، قُلنا بيننا معشر الأنصار خَفيّاً من رسول الله ﷺ: إنا قد كنا تركنا أهلنا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلحها حتى نصر الله نبيه، هَلُمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها! فأنزل الله الخبرَ من السماء: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة} الآية، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نُقيم في أموالنا ونُصلحها، وندعُ الجهاد. قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يُجاهدُ في سبيل الله حتى دُفن بالقسطنطينية».
نعم، هذه هي المفارقة، أن تُستخدم آية تأمُر بعدم التخلي عن الإنفاق وقتال الكفار دليلاً على التملّص من الواجبات الشرعية بهدف الركون والبحث عن الأمان الشخصي، والابتعاد عن أية مشقة!
وهنا ينبغي التنويه، أن المسلم لا ينبغي -وهو يحمل الإسلام ويقول الحق- أن يضع نفسه فريسة للكفار وعملائهم؛ بل يجب عليه أن يتحرّز قدر المستطاع، وهذا ما أثبتته عدة وقائع في السيرة النبوية، لكن التحرّز لا يعني مطلقاً ترك الفرض الشرعي، فقد قال النبي ﷺ: «أفضلُ الجهادِ كلمة عدلٍ عند سلطان جائرٍ». رواه أبو داود والترمذي، وقال أيضاً: «سيدُ الشهداءِ حمزةُ بنُ عبدِ المطلبِ، ورجلٌ قامَ إلى إمامٍ جائرٍ فأمرَهُ ونهاهُ، فقتَلَهُ». رواه الحاكم وابن حبان.
منتدى قضايا الثورة